جعفر عباس يكتب: التربية بين الحزم واللين
*لا أزعم أنني كنت مربيا مثاليا خلال عملي في التدريس، ومع هذا كثيرا ما أتناول هنا مواضيع تتعلق بالتربية والتعليم، وغايتي من ذلك هي تبصير القارئ بأمر هنا أو هناك، ولا أزعم أنني أب مثالي ولهذا أخوض كثيرا في أمور تنشئة العيال، بل أيضا هنا أعرض تجربتي وتجارب غيري عسى ان يجد الناس فيها ما يفيد فيتبعونه وما يزعج فيتجنبونه، وكان لا بد من هذه المقدمة لأردد مجددا أنه من الضروري ان يعرف الطفل متى نقول نحن أولياء أمورهم «لا»، ولمن نقولها، ولماذا نقولها، وفي أي الحالات لا نقولها. نعم فليس من حسن التربية ان تكون كلمة «لا» حاضرة على لسان الأب أو الأم على الدوام وطوال الدوام المنزلي، كلما طلب العيال أمرا (أريد أن ألعب مع حسون.. لا… أريد مشاهدة مباراة.. لا.. أريد سندويتش بيرغر.. لا)؛ أعني انه لا بد من الموازنة بين التدليل والتدليع والجفاء والقسوة ولو بالكلام «الناشف». والمصيبة الكبرى هي ان ينقسم الأب والأم إلى حزبين أحدهما يلعب دور الحنين الرؤوم، و«يفوِّت» للعيال أخطاءهم مهما كانت فداحتها، بينما يميل الآخر إلى الحزم. ومن غرائب الأمور أن الآباء عادة أشد حزما مع الأولاد وأكثر رقة مع بناتهم والعكس عند الأمهات اللواتي يكن عادة أكثر تدليلا للذكور من عيالهن.
*عندما بدأت التدخين اكتشفت أمي الأمر فقالت: أبوك سيقتلك لو عرف بالأمر.. لازم تعمل حسابك! وعملت حسابي وعلقت في ضباب التبغ قرابة عشرين سنة أصيبت خلالها رئتي وجيبي بالثقوب. ولو ردعتني وزجرتني أو أبلغت والدي لربما ما واصلت التدخين، والأطفال أذكياء: يا أحلى ماما.. تعرفين أن أبوي صعب ومو حنين مثلك.. كلميه عشان يخليني أبيت الليلة عند صديقتي سونيا.. بس خليها كأن الاقتراح منك أنت مو مني أنا.. وتعتقد الأم بذلك ان حب بنتها لها أكثر من حبها لأبيها، ولا يخطر ببالها انها تستعبط، بل وربما تحترم الأب أكثر لأنها تعرف أنه صارم حيث ينبغي ان يكون صارما وعطوف وودود في معظم الأحوال.. هذا الوضع قائم في غالبية بيوتنا لأن الأب غائب عن حياة البيت بسبب «مشاغل الدنيا وأكل العيش».. ويترك مسؤولية رعاية العيال للأم.. والأم قد تكون عاملة مثله، ووقتها موزع بين البيت والعمل ومن حقها ان تطلب الراحة والهدوء بعيدا عن دوشة العيال بعض الوقت، وقد تكون متفرغة لشؤون البيت ولكن كثرة الأعباء تجعلها تلجأ إلى طلب راحة البال بالاستجابة لكل ما يطلبه العيال.. أي أنها تشتري راحة بالها «مؤقتا» بتلبية طلبات «المستمعين».
*يفاقم الوضع ان الأسرة الممتدة بدأت تتآكل باسم مشاغل الحياة.. فيما مضى كان الطفل يعمل حسابا للعم وابن الخال والعمة وبنت الخال وزوج أخته الذي من حقه أن يزجره.. كل ذلك انتهى.. وإذا تعرض طفل للزجر من قبل قريب غير والديه قد لا يتردد في القول له: انت لست أبي/أمي وليس من حقك ان تخاطبني بهذه الطريقة.. بل يقول الأطفال ذلك الكلام لإخوتهم الكبار: أنت مو أبوي.. خلّك في حالك.. وأحيانا قد يحتج الطفل على قرار الأم/الأب ويطالب بتفسير وتبرير، شخصيا لا أتردد في الرد على الاحتجاج بأنني اتخذت القرار لأنني أملك الصلاحية لذلك بحكم انني أب وأنني لا أدخل في مفاوضات مع الإرهابيين. فالعيال يلجأون إلى أساليب الإرهابيين الذين يحتجزون رهائن، منها الابتزاز: يعني ما تحبوني؟ لا، بل نحبك ونرفض تلبية جميع رغباتك لأننا نحبك.. ولأن الطفل لبيب ويفهم بالإشارة فيجب على الدوام ان يقترن الزجر والنهر ورفض الطلبات بأدلة ملموسة (وليس مجرد كلام) على أنه محبوب.. ليس بالانهزام أمام ابتزازه و«حركاته القرعة»، ولكن بمنحه الإحساس بأن هناك أشياء كثيرة يحبها مباحة ومتاحة.. وفي تقديري فإن من أسوأ خصال الأبوة والأمومة مواصلة تمثيل دور الزعلان ساعات أو أياما.. العفو والمسامحة أحيانا عقوبة تأتي بنتائج أفضل من التكشير والصراخ المتواصل.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.