أمجد فريد الطيب يكتب: المجاعة في السودان… مأساة بفعل فاعل
حال السودان- الذي كان يطلق عليه وصف “سلة غذاء العالم- يشبه حال تانتالوس في الأساطير الإغريقية، والذي حُكِم عليه بالعذاب الأبدي معلقا فوق بركة ماء، ينحسر ماؤها كلما حاول الشرب منها، وعلى أغصان شجرة، تبتعد عنه ثمارها كلما همّ أن يتناولها. إذ يواجه السودان حاليا أسوأ فترة في تاريخه من حيث انعدام الأمن الغذائي الحاد، ويعاني فيه أكثر من 25.6 مليون نسمة من الجوع الحاد.
بحسب نظام التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) الذي تم تطويره عام 2004 من قبل وحدة تحليل الأمن الغذائي والتغذية التابعة لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO)، فإن أكثر من 8.5 مليون شخص في السودان هم في المرحلة الرابعة والمعروفة بحالة الطوارئ، وهي المرحلة قبل الأخيرة في ترتيب درجات حدة المجاعة بحسب التصنيف المذكور، بينما وصلت حالة أكثر من 755 ألف شخص في السودان إلى المستوى الخامس، وهي حالة المجاعة الكارثية، أي أقصى معدلات تصنيف المجاعة. وكان برنامج الغذاء العالمي قد أعلن مؤخرا أن هناك أكثر من مليون نسمة على الأقل يواجهون مستويات حادة من الجوع في العاصمة الخرطوم وحدها. فيما أورد تقرير معهد “كلينجندايل” الهولندي أن عدد الوفيات الناتجة عن الجوع بلغ مليونين وخمسمئة ألف وفاة مع توقع أن يموت 15 في المئة من سكان ولايات دارفور وكردفان، والتي من المرجح أن تكون الأكثر تضررا، من الجوع والمرض بحلول سبتمبر/أيلول 2024.
وقد فاقم من سوء هذا الوضع، تزايد أعداد النازحين واللاجئين. حيث قارب تعداد النازحين داخليا 11 مليون نازح تم تشريدهم داخل السودان، بينما تجاوزت أعداد اللاجئين السودانيين في دول الجوار وحول العالم مليونين ونصف المليون لاجئ. والغالبية من هؤلاء الذين تم تشريدهم (55 في المئة) هم من الأطفال تحت سن الثامنة عشرة، بحسب إحصائيات المنظمة الدولية للهجرة (IOM). وبحسب مصادر هذه الإحصائيات نفسها، أدت هجمات ميليشيا “قوات الدعم السريع” في الأسابيع الأخيرة على مناطق في ولاية سنار وحدها إلى تشريد أكثر من 151.750 نسمة (نحو 30.350 أسرة) فقط في الفترة بين 27 يونيو/حزيران وحتى 11 يوليو/تموز 2024.
الوضع في السودان جعل البلاد تشهد أكبر كارثة إنسانية من حيث إحصائيات التشريد والنزوح وانعدام الأمن الغذائي ومعاناة الأطفال في العالم وفي التاريخ المعاصر. هذه الكارثة والمعاناة ذات الأبعاد الأسطورية، لم تحدث قضاءً وقدرا، وليست نتيجة ظروف طبيعية أو جفاف أو جدب أراضٍ، بل هي من صنع بشر ونتيجة لإجرامهم بشكل مباشر في حق الأبرياء. وكما وصفتها روز ماري ديكارلو وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية بأنها “برمتها من صنع الإنسان”.
وعلى الرغم من هذا الوضع الكارثي، نجد أن التمويل المتوفر لهذا العام من المجتمع الدولي لخطة الإغاثة الإنسانية في السودان بنهاية شهر يوليو 2024، يغطي فقط نحو ثلث الحاجة والميزانية التي قدرتها وكالات الأمم المتحدة لمعالجة أكبر كارثة إنسانية معاصرة (التمويل المتوفر يبلغ 850 مليون دولار، بينما الميزانية المطلوبة تبلغ 2.7 مليار دولار). ولكن تخاذل، بل تواطؤ المجتمع الدولي مع تحويل التعامل مع الكارثة السودانية إلى مجرد شعارات كلامية، عبر تناول هذه المعاناة الإنسانية المتزايدة وكأنها مسألة نظرية تتراوح فيها وجهات النظر. فما يحدث في السودان هو تجويع وليس مجاعة.
تبرير هذه الكارثة والمعاناة الإنسانية بأنها نتاج حرب 15 أبريل/نيسان 2023 وحدها، هو تحليل قاصر، فحتى الحرب في عصرنا الحديث لها قوانينها ولها قواعدها التي تحكم سلوك الأطراف المتقاتلة لتحدّ من تأثير القتال على المواطنين المدنيين. وقد اتبعت ميليشيا “قوات الدعم السريع”، منذ اندلاع حربها مع قوات الجيش السوداني، استراتيجية حصار التجويع التي استهدفت الضغط على المواطنين لإخضاعهم أو إجبارهم على الانضمام إليها. حيث حاصرت الميليشيا في بداية الحرب مناطق مكتظة بمئات الآلاف من السكان مثل جزيرة توتي، وأحياء مثل بانت والعباسية والفتيحاب والمهندسين في ولاية الخرطوم إبان سيطرتها على مدينة أم درمان، ومنعت خروج المواطنين منها ومنعت عنهم دخول الطعام والمؤونة، وهو ما أدى إلى تسجيل عدد من الوفيات بين المواطنين بسبب الجوع والعطش في تلك المناطق، وضربت الميليشيا حصارا مماثلا على المناطق التي سيطرت عليها في ولاية الجزيرة، وتم استخدام الطعام والمؤن الغذائية كسلاح لإجبار الشباب على التجنيد والانتماء إلى صفوفها. ووثقت تقارير إخبارية تضمنت استقصاءً مع ما لا يقل عن 750 شخصا بينهم على الأقل 65 من الأطفال تحت سن الثامنة عشرة، تم إجبارهم على الانضمام والتجنيد في صفوف “الدعم السريع” باستخدام التجويع والتهديدات بقطع المؤن الغذائية عن مناطقهم في ولاية الجزيرة في الفترة من يناير/كانون الثاني إلى مارس/آذار 2024. وقبل أيام قليلة، في 14 يوليو/تموز 2024، هاجمت “قوات الدعم السريع” قافلة لتجار محليين متجهين من قريتي فنقوقا الغربية وأم هجليجة للحصول على إمدادات من السوق الأسبوعية في أم صميمة، الواقعة على بعد 75 كيلومترا شمال مدينة أم روابة في شمال كردفان. وقد أطلق أفراد الميليشيا النار عشوائيا على موكب التجار بغرض منعهم من الاستمرار في طريقهم، مما أسفر عن مقتل 23 شخصا على الفور وإصابة العشرات، وتعطيل قوافل الإمداد.
وقد ظهر نمط ثابت مع استمرار الحرب، عندما يسيطر مقاتلو “قوات الدعم السريع” على أي منطقة مدنية، حيث يصادرون الطعام ويمنعونه عن المدنيين بشكل منهجي.
لم تتوقف استراتيجية حصار التجويع عند ذلك، ولكنها امتدت إلى النهب المباشر للمعونات الغذائية. فقد بدأت ميليشيا “قوات الدعم السريع” منذ الأيام الأولى للحرب بمهاجمة مخازن ومستودعات صندوق الغذاء العالمي ونهبها. وفي اليوم الثاني لاندلاع الحرب، في 16 أبريل 2023، تم نهب مستودعات الصندوق في مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، مما أدى إلى فقدان ما يصل إلى 4000 طن متري من المواد الغذائية. وفي غضون شهرين، بين اندلاع الحرب في أبريل 2023 ويونيو 2023، تم نهب ما لا يقل عن 162 شاحنة مساعدات و61 مكتبا و57 مستودعا في دارفور وحدها. وفي يونيو 2023، قامت الميليشيا بنهب برنامج الغذاء العالمي في الأبيض، عاصمة شمال كردفان، والذي يحتوي على المساعدات الغذائية المخصصة لـ4.4 مليون مدني في ولايات شمال وغرب وجنوب كردفان بالإضافة إلى ولايات دارفور المتاخمة. وقدرت الخسائر المسجلة لبرنامج الأغذية العالمي وحده بأكثر من 60 مليون دولار أميركي بحلول تاريخ ذلك الهجوم.
وفي بيان بتاريخ 28 ديسمبر/كانون الأول 2023 أعلن صندوق الغذاء العالمي أن “قوات الدعم السريع” نهبت مستودعاته في ولاية الجزيرة أثناء غزوها لود مدني. وكشفت تقارير الحادث أن هذا النهب حدث على الرغم من تزويد “قوات الدعم السريع” بإحداثيات دقيقة لموقع المستودعات، وتلقي برنامج الأغذية العالمي تطمينات بأنه لن يتم نهبه. وقد نهبت “قوات الدعم السريع” في تلك الهجمة أكثر من 2500 طن متري من المساعدات الغذائية شملت مخزونا من البقول والذرة الرفيعة والزيوت النباتية والمكملات الغذائية، كانت كافية لتغطية الاحتياجات الغذائية لـ1.5 مليون سوداني لمدة شهر إلى جانب الأطعمة المغذية المتخصصة المصممة لمنع وعلاج سوء التغذية لدى أكثر من 20 ألف طفل وامرأة حامل ومرضعة.
وشملت أعمال النهب الموثقة التي قامت بها “قوات الدعم السريع” شاحنات الإغاثة والمركبات التي تنقل الإمدادات الإنسانية إلى السكان السودانيين في المناطق الخاضعة لسيطرتها. ومؤخرا، ورد في تقرير داخلي للأمم المتحدة أن ميليشيا “قوات الدعم السريع” قد قامت بنهب أكثر من 4100 لتر من الوقود من شاحنات الإغاثة والمركبات التابعة للمنظمات الإنسانية، ذلك غير الإتاوات والرسوم التي تفرضها الميليشيا على المواطنين والمنظمات الإنسانية للمرور عبر خطوط مناطق سيطرتها. وبالإضافة إلى ذلك لم تتورع “قوات الدعم السريع” عن نهب ووقف شاحنات المساعدات، حتى في المناطق التي نجت حينها من القتال الدائر، مثل شمال دارفور، حيث أفادت التقارير في مارس 2024 بأن “قوات الدعم السريع” قامت بنهب شاحنات الإغاثة التي تحمل مساعدات منقذة لحياة الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية في ولاية شمال دارفور.
وعلى مستوى أكثر حدة، أدت الهجمات والأعمال الحربية التي تقوم بها ميليشيا “قوات الدعم السريع” إلى تعطيل النشاط الزراعي في البلاد بشكل كبير. حيث أدى اجتياح الميليشيا لولاية الجزيرة في ديسمبر 2023، إلى إعطاب زراعة أكثر من مليونين وأربعمئة ألف فدان من الأراضي الزراعية الخصبة والتي كان يمكن أن تساهم في معالجة الأزمة الغذائية في البلاد بشكل كبير. فيما راح مشروع الجزيرة الزراعي، وهو أكبر مشروع للري الانسيابي في العالم، ضحية لبربرية ميليشيا “قوات الدعم السريع” واستراتيجية التجويع التي تتبعها.
وأيضا أشارت دراسة مشتركة أجراها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمعهد الدولي لبحوث سياسات الغذاء إلى أن نحو 60 في المئة من الأنشطة الزراعية في ولايات سنار وغرب كردفان توقفت، في حين بلغ حجم خسائر الأراضي الزراعية في ولاية الخرطوم ما نسبته 68 في المئة من الأراضي الصالحة للزراعة. ونتيجة لهذا فإن 59 في المئة من الأسر الريفية تواجه حاليا في السودان مستويات انعدام الأمن الغذائي بدرجة متوسطة أو شديدة.
إن ما يحدث في السودان، ليس مجرد أزمة غذاء، بل هي لوحة بشعة لعجز الإنسانية أمام رقصة الموت بمنجل حصاده الدامي في شوارع هذا البلد. هذا المشهد البائس ليس مجرد استعارة، بل هو واقع قاسٍ، فيه حسابات الموت والمعاناة الكارثية تتصاعد بمتوالية هندسية بشكل مخيف. وهو ليس مصادفة أو مجرد أحداث مؤسفة أو نتيجة كارثة طبيعية، بل هي جريمة بفعل فاعل.
ما يحدث في السودان، ليس محض جوع أو مجاعة، بل هو جريمة تجويع متعمد تقوم بها ميليشيا “قوات الدعم السريع”. ولا يمكن أن تختفي معاناة ودماء الأبرياء السودانيين تحت ستر الكذب والمجاملة. فالجرائم التي ترتكبها الميليشيا، هي كسحابة سوداء تغطي سماء السودان.
وغير معاناة الضحايا المباشرين، يتردد صدى تأثير هذه الجرائم من خلال الإرهاب الجماعي وانقطاع الإمدادات الأساسية، وتفاقم الجوع والحصار المفروض على المدنيين. ولا ينبغي قبول الإفلات من العقاب تحت غطاء السرديات والمجاملات الدبلوماسية التي تقدمها ميليشيا “قوات الدعم السريع” بشأن المساعدات الإنسانية للمدنيين والتي لا تنعكس على أرض الواقع، حيث تتناقض الأفعال الشنيعة التي ترتكبها “قوات الدعم السريع” مع الأقوال المزيفة التي تطلقها. كما أن استمرار المجتمع الدولي والفاعلين السياسيين المحليين والإقليميين والعالميين في القبول بهذه السرديات الوهمية، وخطاب الاحتيال الذي تقدمه الميليشيا، يساعدها على الإفلات من العقاب، والاستمرار في ارتكاب هذه الجرائم التي تؤدي إلى مزيد من المعاناة على كاهل ضحايا الحرب من المدنيين السودانيين.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.