* في خواتيم عقد التسعينات درج الشاعر الراحل أبو آمنة حامد رحمة الله عليه على زيارتي بانتظام في مكتبي بصحيفة المشاهد الرياضية، وكان يكتب كبسولاتٍ صغيرة في الصفحة الأخيرة، فتحدثت معه ذات مرة عن قصيدته الخالدة (ما نسيناك)، التي حولها الراحل أحمد الجابري رحمة الله عليه إلى قطعة فنية بديعة، بلحنٍ شجي، وصوتٍ ملائكي طروب.
* قلت للهدندوي المبدع إنني مفتون بتلك الأغنية، ولا يكاد يمر عليَّ يوم من دون أن أشنف بها أذني، وأغسل بها دواخلي، وأمتع بها نفسي، من دون أن أملَّ سماعها.
* إعجابي بها ساوى افتتاني بقصيدة ثانية، جادت بها قريحة أبو آمنة نفسه، وكتبها بالفصحى، خلافاً (لما نسيناك)، التي حوت أجمل وأرق أشكال العتاب من المحب للمحبوب، بلغةٍ عاميةٍ بسيطة، تزخر الانكسار والوصف البديع لحال المُحب، عندما يعاني صدَّ المحبوب.
* القصيدة التي عنيتها هي (وشوشني العبير)، وقد حوت في تقديري أجمل بيت شعرٍ قيل في الغزل العفيف، بما يفوق نبوغ السابقين واللاحقين من الشعراء، منذ عهد الجاهلية بمعلقاتها، وانتهاءً بشعر الحقيبة وما تلاه، إذ قال فيه أبو آمنة واصفاً محبوبته (صبيةٌ العطر يشتهيها.. أمذنبٌ إذا أنت اشتهيت)؟
* تخيل أبو آمنة بعبقريةٍ تلامس سقف الجنون أن العطر الذي تضعه محبوبته على جيدها يفتقدها ويحنُّ إليها ويتوق، فهل يُلام هو إذا اشتهاها؟
* مضى أبو آمنة في وصف محبوبته مستفيضاً في ذكر محاسنها، ليخلِّد جمالها، ويرسم لها صورةً تفيض بالرقة عبر ريشة اتخذت من الكلمات ألواناً، إذ قال: (سافرت في عيونها دهوراً فما ارتوت عينايَّ.. ما ارتويت، جدائل الليل على كتفيها تهدلت من حولي.. فما اهتديت، حبيبتي أغرودة العذارى، ورنة الأفراح إذ غنيت، حبيبتي أغنية العطايا، تهمي هوىً إذا هميت، أجمل منها ما احتوى فؤادي، فالعبق الصادح ما احتويت، لا تسألوني كيف كان الملتقى، وكيف في دروبها مشيت، وكيف طاف الثغر في ابتهال وكيف في محرابها صليت، سرٌ عميق حبها بقلبي، ما قلته للناس ما حكيت، فإن روى القيثار سر حبي، قولوا له ما قلت ما رويت.. لكنه حين بكى حنيناً.. بكيت من رقته بكيت).
* أي خيالٍ ذاك وأي إبداع وأي ملكة شعر تلك التي حازها أبو آمنة، وترجمها مبدع آخر إلى لحنٍ لا ينسى؟
* افتتاني بصلاح بن البادية دفعني إلى دعوته لإحياء احتفالية العيد الأول لصحيفة (اليوم التالي)، ويومها غنى جالساً، بعد أن أصيب بكسرٍ في ساقه، أعاقه عن الحركة جزئياً، لكنه لم يحرم محبيه من صوته البهيج، وفنه الرفيع.
* طلبت منه (وشوشني العبير) فاعتذر برقَّة، معللاً رفضه بأن الفرقة الموسيقية لم تتدرب على عزفها، فقبلت اعتذاره، وأطلقت لنفسي العنان كي أستمتع بأدائه العالي، وأغنياته الخالدة.
* سألت أبو آمنة ذات مرة عن بيت شعرٍ آخر، في أغنية (ما نسيناك)، قال فيه (الرهيف قلبو بيعيش في شكو أكتر من يقينو.. تستبيهو نظرة جارحة وتحترق بالحب سنينو)، وقلت له ألم يكن من الأفضل أن يصف نظرة المحبوبة بأنها (حالمة)، بدلاً عن (جارحة)، فضحك وقال لي: (هي جات كدة)، ثم أطرق وقال بعد بُرهة (ربما كانت حالمة أوفق).
* مضى أبو آمنة إلى ربه، مخلفاً شعراً لا ينسى، وكلماتٍ لا تفنى، وتبعه الجابري رحمة الله عليه، بغناءٍ طروبٍ، وصوتٍ حريري بهيج، يتموج في حنجرةٍ ماسية، منحت الفن السوداني أجمل الأغنيات.
* أمس نعى الناعي ثالثهما، الفنان المتفرد صلاح بن البادية، الذي يمثل محطةً خالدة في مسيرة الغناء السوداني، بمجموعة من أروع الأغنيات وأعذبها، وصوتٍ لا يضاهى، أكاد أجزم أنه الأجمل والأقوى والأوفر تطريباً في العالم كله، ناهيك عن العالمين العربي والإفريقي.
* لم يكن صلاح فناناً عادياً، ويشق علينا أن ننعيه، لأن فنه لم ولن يرحل معه، بل سيبقى خالداً في وجدان الشعب السوداني إلى الأبد.
* سنذكره كلما ترددت (حسنك أمر)، وكلما شنفت آذاننا (كلمة)، و(ما عشقتك لي جمالك)، وسيضوع عطره ليفوح وسنتشر كلما حلت علينا (ليلة السبت)، وسنذكره كلما رأينا طرفاً جميلاً، وعيناً كحيلة، لنسترجع سيرته مع شاعر العيون عبد الله النجيب، الذي كتب للراحل عبد المنعم حسيب (عيونك كانوا في عيوني)، ورفد صلاح بـ(من بهاك)، فحلق بها في آفاق تستعصي على أقرانه، (من هواك.. من كلام عينيك وسحرك من بهاك.. من مزايا الرقة عندك من نداك.. من ربيع الدنيا أشرق.. من ضياك كنت سابح.. كنت ناعم بي رضاك.. من كلام عينيك وسحرك من بهاك).
* سنذكر صلاح كلما أدرنا مؤشر التلفاز بحثاً عن لحنٍ بهيج، وصوتٍ ساحر، وكلماتٍ تريح النفوس، وتشحن الصدور بالجمال.
* رحل تاجر العطور، بعد أن نثر عطر صوته علينا بالمجان، وظل يشنف الآذان على مدى نصف قرن من الزمان، ليضع نفسه بين أساطير الغناء السوداني والعربي والإفريقي.
* رحل الفنان الشامل، الذي غنى فأجاد، ومثَّل فأبدع، ولحَّن فصنع فنياً إرثاً لا يقبل النسيان.
* رحل (الملك).. (ألف أهلاً يا دموع).
* (ننساك.. إنت إنت بتتنسي)؟
عاجل
- عاجل.. الجيش السوداني يسيطر على قاعدة الزرق بولاية شمال دارفور
- أحمد الشرع: نعيش اللحظات الأخيرة للسيطرة على حمص
- سماع صوت دوي عالي في مدينة عطبرة
- رئيس مجلس النواب الأميركي يعلن فوز ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية
- الجيش يبسط سيطرته على الدندر
- استشهاد قائد منطقة البطانة العميد أحمد شاع الدين
- البرهان يتفقد المواطنيين بمدينة أمدرمان
- طيران الجيش يقصف مواقع تجمعات قوات الدعم السريع شرق الفاشر
- السودان.. إسقاط مسيرات في مدينة كوستي
- السودان.. حرق برج الاتصالات في الخرطوم
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.