مدخل:
(اخترنا دائماً الفرد، أو العنصرَ الأفضلَ لأي مُهمَّةٍ أو واجب، مهما كانت انتماءاتُه أو أصلُه أو دينُه، كنا نهتمُّ بالنتيجة فقط، وكُنَّا نعلمُ تماماً أن فشلنا يعني حروباً أهلية واندثارَ حلم).
لي كوان يو (مؤسس نهضة سنغافورة).
-1-
تراجعَ بنكُ السودان، عن القرار الذي أصدره قبل ثلاثة أشهر، بخصم (25%) من حصائل الصادر.
كثيرون أشادوا بهذه الخطوة، بمنطق أن الرجوع إلى الحقِّ فضيلة، فما أحدثه القرارُ من آثارٍ سالبةٍ بحركةٍ الصادرات، لم يعد خافياً على اقتصادي، ولا غائباً عن مُتابع، ولن تزول قريباً.
نعم، الرجوع إلى الحقِّ فضيلةٌ في الأخطاء العاديَّة، ولكنَّ اتخاذ قرار كارثي دفَعَ بالأوضاع إلى نقيض ما يُراد منه، أمرٌ يُوضِّح بجلاءٍ أن مُتَّخذَ القرار ليس أهلاً لموقعه.
بإمكان أيِّ مسؤولٍ أن يتَّخذ قراراً أو ينتهج سياسةً تُحقِّق قدراً من النجاح، قلَّ أو كثر، زاد أو نقص.
ولكنَّ المسؤولَ الذي يترتَّب على قراراته نقيضُ ما خَطَّطَ له، هو مسؤولٌ فاشلٌ بامتياز.
كان عليه اتَّخاذ قرارِ وضع القلم، والمُغادرة، قبل أن يتلقَّى القرار من جهة عليا، تُتابع وتُراقب وتُحاسب.
-2-
ليس التراجع عن الـ(25%) من حصائل الصادر، هو المُؤشِّر الأعزل الوحيد؛ فقد رصد صديقنا الكاتب المُتميِّز عادل الباز، ما يُقارب العشرة قرارات، تمَّ التراجع عنها بعد فترة قصيرة من صدورها.
تحقيقُ نقيضِ المراد، في فترة زمنية قصيرة، يدلُّ على سوء التقدير، وعدم كفاءة مراصد الاستشراف والتوقُّع، والعجز عن قراءة المآلات القريبة قبل البعيدة.
قلتُ من قبل: لسنا في حاجةٍ عاجلةٍ لتغيير الطاقم الاقتصادي، لا لأنه يُمثِّلُ الخيار الأفضل المُتاح؛ ولكن لأن حاجتنا إلى تغيير الأفكار وطرائق التفكير أكبر من تغيير الوُجوه والأسماء.
الآن، بعد التَّراجع الأخير، والميزانية المعيبة، وما ترتَّب عليها من مُعاناة قاسية على المواطنين، هدَّدَتْ معاشهم اليومي، أصبحت مغادرة الطاقم الاقتصادي هي الخطوة الأولى لتدارك الأوضاع، قبل الوصول إلى القاع.
-3-
هذا الطاقم ليس فقط لا يملك حلولاً للأزمات الراهنة، بل من الواضح أنه أصبح جزءاً من مُركَّبات الأزمة، بمحدودية خياراته وتخبُّط قراراته، وضعف خياله، ومعكوس مراده: الوصول إلى الغرب حينما ينوي الذهاب شرقاً.
بالمُقارنة مع فترة وزير المالية السابق بدر الدين محمود، ومُحافظ بنك السودان عبد الرحمن حسن، كانت هنالك مقدرةٌ على تلافي المخاطر وتجاوز الصعاب، ولو بحلولٍ مُؤقَّتة، وجُرعات مُسكِّنة، وهذا ما عجز عن فعله الركابي وحازم.
لايوجد اقتصاد مستقر واستثمارات ناحجة في ظل قرارات متقلبة وسياسات تفتقد الرؤية الكلية والثبات النسبي.
وحتى لا يكون البديل أسوأ، وأقلَّ كفاءة، من المُهمِّ تغييرُ أدوات ومعايير اختيار كبار المسؤولين عن إدارة الاقتصاد.
-4-
من الواضح أن قاعدة اختيار الطاقم الاقتصادي، قاعدةٌ محدودةٌ ومحصورةٌ بين الحزب والجيش، وأغلب من يتعاقبون على المواقع من المجالات المحاسبية، والخلفيَّات المصرفية والولاءات الإسلامية.
التحدِّي الآن أكبر، والمشوار أشقُّ وأبعد، ومتعلِّقٌ بالتوسُّع في الإنتاج، وابتدار الاستثمارات الواسعة، والمقدرة المُبدعة الخلَّاقة، في إدارة الموارد، والتركيز على المزايا التفضيلية للاقتصاد السوداني.
فدولةٌ مثل ماليزيا، أصبح شجر المطاط فيها إحدى الروافع الاقتصادية التي انتشلت الدولة من مستنقعات الفقر وأُتون الحروب، إلى منصَّات التقدم والازدهار.
في زمنٍ قياسي، استطاعت سنغافورة تجاوز واقعها البائس، لتضع نفسها ضمن العشرة الأوائل، لأكثر أسواق المال العالمية تقدماً.
استغلَّت سنغافورة موقعها الجغرافي المُتوسِّط، بين اليابان وأوروبا، واندماجها الكامل في الاقتصاد الدولي، فأصبحت تستقبل 70% من تجارة الحاويات في العالم، كما تحوَّلت إلى أحد أهم المراكز المالية العالمية.
-5-
ألم تَسْتَعِنْ بريطانيا بكُلِّ ما لديها من كفاءات مُتميِّزة، بخبرة مارك كارني الكندي لإدارة بنكها المركزي؟!
وهو أوَّلُ أجنبيٍّ يتقلَّد منصبَ مدير البنك المركزي فيها بعد 318 عاماً منذ إنشائه.
دعكَ من بريطانيا المُتقدِّمة، في الكنغو ويوغندا أُوكلت إدارة مرافق اقتصادية مُهمَّة لهنود وبلجيكيِّين، وفي كينيا أصبح الهنود وزراء.
لا نُطالب بأجنبيٍّ لإدارة بنك السودان؛ ولكن لماذا لا يكون محافظ بنك السودان واحداً من الكفاءات السودانية -غير الحزبية- المُتوفِّرة في المؤسسات الاقتصادية العالمية، ولها الرغبة والمقدرة على خدمة الوطن؟!!
الأزمة الاقتصادية، ليست أزمةَ حكومةٍ أو حزبٍ، بل هي أزمة دولة تكون أو لا تكون.
-6-
لماذا لا يكون وزير المالية واحداً من رجال الأعمال، الذين لهم كفاءةٌ عاليةٌ في ابتدار الحُلول الإنتاجية غير التقليديَّة، ويعرف خبايا الأسواق؟!
لماذا لا نخرج من سيطرة المصرفيِّين والمُوظَّفين على الاقتصاد؟!
لماذا لا نخرج من (السَّحَّارة) القديمة، والخيارات المُجرَّبة، والأفكار التقليديَّة، ونُحلِّق خارجَ نادي المصرفيِّين؟!
-أخيراً-
ستظلُّ الأزمةُ قائمةً ومُتصاعدةً إلى حدود الانهيار التام والفوضى الشَّاملة، إذا لم نخرجْ من اقتصاد السلطنة الزرقاء (الزراعة والرعي وسِن الفيل)، إلى فضاء الاقتصاد الحديث، الذي يجعل من شركة نقل داخلي مثل (ترحال) من ثلاثة أشخاص في شقة صغيرة أنجح من سودانير، بكُلِّ اصطافها وتاريخها المُمتد.
التعليقات مغلقة.