“معركة ملء السدّ”.. 6 مناورات قادت إثيوبيا لكسب أوّل جولة
وكالات: باج نيوز
استطاعت إثيوبيا، منذ وصول آبي أحمد لرئاسسة الحكومة مارس 2018، أن تربح أول جولة في معركة سد “النهضة” ببدء ملء خزانه، رغم رفض مصري- سوداني، عبر سيناريو مفاده أن “موسم الأمطار هو صاحب قرار الملء، وليس الحكومة“.
هذا السيناريو سبقته خطة يمكن جمع خيوطها منذ أن تولى آبي أحمد السلطة، محاولا كسب شعبية عبر السد، أمام أزمات داخلية متصاعدة، عقب تأجيل انتخابات محلية، كانت مقررة في أغسطس/آب الماضي، إلى أجل غير مسمى، خشية من جائحة “كورونا“.
وهذه الخطة رُسمت عبر ست مناورات، وفق رصد وقراءة أولية لمشهد إعلان بدء ملء السد، بينها ما هو تعبوي بزيادة طموحات الداخل وكسب تأييده، وإطالة أمد المفاوضات لكسب وقت لبناء وملء السد، وإرباك الخارج بتلويح عسكري، وصدمات عبر التراجع عن مسار واشنطن.
أولا: السيناريو المفاجئ
جاء سيناريو ملء السد المفاجئ عقب اجتماع لقمة إفريقية مصغرة، الثلاثاء، بمشاركة قادة الدول الثلاث، في ظل تعثر المفاوضات.
وبعد القمة، أعلنت إثيوبيا أن “القدر” وراء الملء، الذي ظلت تنفيه رسميا لأيام، بعد أن نقل تلفزيونها الرسمي تصريحا حكوميا يفيد ببدء الملء.
وقال مكتب آبي أحمد، في بيان الثلاثاء: “أصبح من الواضح على مدى الأسبوعين الماضيين، في موسم الأمطار، أن عملية ملء سد النهضة في السنة الأولى قد تحققت“.
هذا السيناريو الإثيوبي لم تعلق عليه مصر رسميا، وأعلنت عقب القمة، مثل السودان، أنها قبلت بالعودة إلى المفاوضات الثلاثية، للتوصل إلى اتفاق شامل.
وقال محمد نصر علام، وزير الري المصري الأسبق، لموقع “مصراوي” المحلي، إن تبرير آبي أحمد بدء ملء الخزان بزيادة نسبة الأمطار هو “خاطئ وغير مبرر، لأن أديس أبابا كان بإمكانها فتح بوابات الخزن لمرور المياه الزائدة التي ملأت المرحلة الأولى“.
وغرد وزير الخارجية الإثيوبي، غيدو أندارغاشو، عبر “توتير” الأربعاء، قائلا: “تهانينا.. سابقا كان النيل يتدفق، والآن أصبح في بحيرة، ومنها ستحصل إثيوبيا على تنميتها المنشودة (..) في الحقيقة.. النيل لنا“.
ثانيا : 6 مناورات
1- تعبئة داخلية
لجأت لهذه المناورة، التي سُمع ضجيج طحينها في الإعلام، حكومة آبي أحمد، بخلاف سابقاتها، حيث ركزت على التعبئة الداخلية وزيادة طموحات الإثيوبيين، أملا في ارتفاع شعبيتها، عبر التمسك ببناء وتشغيل السد، لتوليد الطاقة الكهربائية، وهو الهدف الرئيس من السد.
وعقب المرحلة الأولى من الملء، قال آبي أحمد، في خطاب تعبوي الأربعاء: أهنئ كل الشعب الإثيوبي على الإنجاز، فهذا السد كان يجب أن يتحقق قبل 200 عام على الأقل، فهو الرمز والأيقونة لهذا الجيل والضوء الساطع للإثيوبيين على مدى سنوات، ونقطة تحول للإثيوبيين للتألق مرة أخرى، والقضاء على الفقر والتخلف“.
وأضاف: “إذا تجاهلنا الخلافات، وأغلقنا الأبواب على أولئك الذين يريدون تفكيكنا، فسنحقق إنجازات مختلفة“.
ومع سقوط عشرات القتلى، خلال احتجاجات بالعاصمة أديس أبابا وإقليم أورومو المحيط بها، إثر اغتيال المغني الشعبي هاشالو هونديسا على أيدي “مجهولين”، خرج آبي أحمد، في 7 يوليو/ تموز الجاري، ليقول إن هذه الاضطرابات لن تعطل خططه لبدء ملء السد.
وأضاف، في خطاب تلفزيوني، أن اغتيال هونديسا “عمل شرير ارتكبه وحرّض عليه أعداء من الداخل والخارج ليفسدوا علينا السلام ويمنعوننا من إنجاز الأمور التي بدأناها“.
وفي 8 يونيو/ حزيران الماضي، وسط انتقادات محلية متصاعدة، ركز آبي أحمد على أهمية ملء السد والرخاء المنتظر، بينما كان يرفض مطلب معارضيه تشكيل حكومة انتقالية، بمجرد انتهاء ولايته في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، في ظل قرار اتُخذ في مارس/آذر الماضي بتأجيل انتخابات، كانت مقررة في أغسطس/آب المقبل، لأجل غير مسمى؛ بسبب “كورونا“.
2- إطالة أمد المفاوضات
لم تكن إطالة أمد المفاوضات استراتيجة آبي أحمد وحده، فهو نهج إثيوبي متواصل، منذ نحو شهر من وضع أول حجر بالسد، في 2 أبريل/نيسان 2011.
ففي 13 مايو/أيار 2011، زار رئيس وزراء مصر آنذاك، عصام شرف، نظيره حينها ميليس زيناوي، واتفقا على تشكيل لجنة ثلاثية لبحث دراسات متعلقة بالسد.
ومرت أكثر من 9 سنوات في حلقة مفرغة من المفاوضات دون اتفاق شامل.
وشهد 2012 اجتماعات فنية دون اتفاق، تلاها بعام توقف المفاوضات، قبل أن تتفق القاهرة وأديس أبابا على استئنافها، صيف 2014، وإجراء مباحثات فنية لم تسفر عن شيء.
وفي 2015، توصلت الدول الثلاث إلى اتفاق إعلان مبادئ. وشهد 2016 اجتماعات فنية حول السد، وظهر في العام التالي رفض إثيوبي لمشاركة البنك الدولي في المفاوضات.
ولم تسفر لقاءات 2018 عن حل للخلاف بشأن الملء والتشغيل.
وقبلت الدول الثلاث، أواخر 2019، برعاية الولايات المتحدة للمفاوضات.
وانتهت الرعاية الأمريكية، في فبراير/ شباط الماضي، بتوقيع مصري أولى لاتفاق بشأن السد، وامتناع إثيوبي بدعوى ضرورة إجراء مشاورات مع الداخل، وكذلك تحفظ سوداني. ولم تفلح دعوة سودانية، في مايو/ أيار الماضي، في حلحلة الخلافات المصرية- الإثيوبية.
وانتهت اجتماعات بين 3 و13 يوليو/ تموز الجاري، برعاية الاتحاد الإفريقي، بقمة مصغرة الثلاثاء، أعلنت الدول الثلاث بعدها العودة إلى المفاوضات، إضافة إلى إعلان إثيوبي عن بدء ملء السد، رغم رفض مصري- سوداني.
ومنذ مجئ آبي أحمد للسطة، كان خطاب الخارجية المصرية أكثر وضوحا في اتهامه للجانب الإثيوبي بـ”مماطلة وإطالة” أمد المفاوضات لكسب الوقت. وعادة ما كانت إثيوبيا تنفي، وتتحدث عن حقها في التنمية، دون إضرار بأحد ولا استحواذ آخرين على حقوقها.
3- إرباك القاهرة والخرطوم
بدأت مناورة إثيوبيا لإرباك خطط مصر والسودان، بالتلويح بإمكانية خوض حرب للحفاظ على السد.
ففي 22 أكتوبر/تشرين الأول 2019، قال آبي أحمد: إذا كانت هناك حاجة لخوض حرب بشأن سد النهضة، فإثيوبيا مستعدة لحشد الملايين، بحسب وسائل إعلام. وأعلنت القاهرة رفضها لهذا التصريح، إن صح، مع تصعيد إعلامي مصري ضد آبي أحمد.
بعد يومين، عُقد لقاء بين الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وآبي أحمد، في منتجع سوتشي الروسي.
وقال آبي أحمد حينها إن تصريحه (بشأن خوض حرب) تم اجتزاؤه من سياقه، وشدد على تمسك بلاده بالمفاوضات للتوصل إلى اتفاق نهائي.
وفي مايو/أيار ويونيو/ حزيران الماضيين، أعلن الجيش السوداني إحباط هجومين، أحدهما لـ”مليشيا إثيوبية”، مسنودة من الجيش الإثيوبي.
ويرى مراقبون ارتباطا لتكرار هذه “التحرشات الحدودية” بالملف المتعثر للسد، بينما يذهب آخرون إلى أن فترات الإعداد للموسم الزراعي والحصاد في المناطق الحدودية السودانية مع إثيوبيا، عادة ما تشهد اعتداءات من عصابات مسلحة، خارجة عن سيطرة أديس أبابا، للاستيلاء على موارد.
4- صدمة واحتواء
قبل إقرارها ببدء الملء، لجأت إثيوبيا لمناورة الصدمة مع مصر والسودان، بتراجعها عن مسار واشنطن.
وكان مراقبون ذهبوا إلى أن تدخل دولة كبرى، كالولايات المتحدة، لرعاية المفاوضات، سينجز الأمر، غير أن فبراير/ شباط الماضي، شهد رفضا إثيوبيًا للتوقيع على اتفاق أولى وقعته مصر.
تلك الصدمة “الإثيوبية”، التي صنعها داخل متوتر، لم تكن بعيدة عن خطة أديس أبابا لملء السد، فمع عودة المفاوضات، برعاية إفريقية، رفضت إثيوبيا مجددا طلب مصر إدراج نتائج مسار واشنطن ضمن مسار المحادثات.
ولم يكن إعلان التلفزيون الإثيوبي بدء الملء إلا مناورة ثانية باستراتيجية الصدمة، والتي احتوتها أديس أبابا بنفي رسمي، قبل أن تعود الثلاثاء وتقر بالملء، لكن وفق سيناريو خارج عن إرادتها، وهي الطبيعة.
5- هروب إلى الأمام
مبكرا، لجأت حكومة آبي أحمد إلى استراتيجة الهروب إلى الأمام واختيار الراعي الذي يتيح لها استكمال سيناريو البناء والملء، للوقوف في وجه أي تحرك مصري محتمل.
ففي 12 يناير/ كانون الثاني الماضي، طلب آبي أحمد من رئيس جنوب أفريقيا، سيريل رامافوزا، الوساطة لأن بلاده ستتسلم رئاسة الاتحاد الإفريقي، عام 2020، خلفا لمصر.
وكان واضحا أن هذا الطلب، أثناء مفاوضات مسار واشنطن، هو محاولة للقفز إلى الأمام للحيلولة دون اتهام أديس أبابا مستقبلا بأنها لا تريد مفاوضات أو حلول، وبالتالي تكسب الوقت لإنهاء الملء المأمول.
6- قصف رسمي وإعلامي
في الأشهر الأخيرة، لاسيما يونيو/ حزيران الماضي، صعدت إثيوبيا، خاصة عبر خارجيتها، لهجة غير دبلوماسية تبدو قريبة من لغة “الحروب الباردة“.
وقال وزير الخارجية الإثيوبي، في تصريحات صحفية، إن بلاده ماضية في ملء السد، في يوليو/تموز، حتى من دون اتفاق.
واعتبر أن ذهاب مصر بملف السد إلى مجلس الأمن “لا تأثير له”، في ظل حق أديس أبابا بالتنمية.
وأضاف أندارغاشو: “المصريون يلعبون مقامرة سياسية، يبدو بعضهم كما لو أنهم يتوقون إلى اندلاع حرب“.
وهي تصريحات اعتبرها نظيره المصري، سامح شكري، “استفزازية” و”تبدو متتالية وبنبرة غير مناسبة“.
تحول القصف الإثيوبي من إعلامي إلى دبلوماسي، ليس محض صدفة، فهذا لا يحدث إلا بضوء أخضر من حكومة آبي أحمد، التي تحتاج لمزيد من التجييش الشعبي.
ثالثا: موقف مصر والسودان
إزاء تلك المناورات، وما أسفرت عنه من بدء ملء السد، يبدو أن مصر اضطرت لامتصاص “ضربة” الملء، على أمل أن تستمر استراتيجية نَفَسها الطويل في “توريط” إثيوبيا في مخالفات دولية تعزز جانب القاهرة إفريقيًا ودوليًا، في حال اتخذت موقفا متشددا، إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق شامل.
وواضح من الإعلان الرئاسي المصري، الثلاثاء، أن القاهرة حاليا تريد أولا حصر إثيوبيا في خانة “بلورة اتفاق قانوني ملزم بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة”، مع تحرك أديس أبابا لملء السد.
وتأمل القاهرة على ما يبدو أن يلي ذلك “بلورة اتفاق شامل لكافة أوجه التعاون المشترك بين الدول الثلاث فيما يخص استخدام مياه النيل”، وفق بيان رئاسي.
وبذلك تريد مصر أن تنهي آخر بنود الرفض الإثيوبي المتكرر خلال المفاوضات، فالقاهرة كانت تتحدث عن اتفاق قانوني شامل بينما ترفض أديس أبابا.
لكن مع تحرك إثيوبيا لملء السد، تريد مصر أن تدفعها مجددا إلى اتفاق ملزم أولا، يقلل أي خسائر متوقعة للقاهرة وحصتها المائية (55.5 مليار متر مكعب سنويا)، حتى لا يضيع الوقت.
ومن ثم تبحث القاهرة الشق الآخر، وهو حقوق استخدام نهر النيل، عبر استراتيجية جديدة، فلا يزال أمامها وقت لمحادثات موسعة محلية ودولية وإفريقية.
أما الخرطوم، فيبدو أنها لن ترفع حاليا صوتها الغاضب، انتظارا لما تسفر عنه المفاوضات وتحركات القاهرة، خاصة وأن السودان مشغول بداخل مليء بالتحديات منذ الإطاحة، في 11 أبريل/ نيسان 2019، بحكم عمر البشير (1989: 2019).
كما أن استمرار وقوف السودان في المنتصف، بين جارتيه مصر وإثيوبيا، يجعله أقرب إلى أن يكسب من الطرفين متى لاحت مكاسب عند أي منهما، ولاسيما المكاسب المحتملة من سد “النهضة”، خاصة على صعيد الطاقة الكهربائية.
نقلاً عن الأناضول
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.