باج نيوز
موقع إخباري - أخبار اراء تحليلات تحقيقات بكل شفافية
taawuniya 1135*120

بكري عثمان سعيد: في  الدول الفقيرة..هل الإغلاق الكامل أسوأ من فيروس كورونا؟

1٬291

يحتدم الجدل في الأوساط السياسية والاقتصادية والإعلامية حول إعادة فتح الاقتصاد قبل القضاء التام على فيروس كورونا.  قاد الحملة بالمقام الأول الرئيس الأمريكي دونالد ترمب،والذي تجاوز أعراف الحكم حين أيد متظاهرين امريكان يحتجون على إطالة الحظر ويدعون الى عودة الحياة إلى طبيعتها.
أعداء الرئيس ترمب يتهمونه بتسيس الأمور وأن عقله مركز على فوزه في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل. يعتمد الرئيس ترمب في حملته الانتخابية بالدرجة الأولى على قوة الاقتصاد الأمريكي التي تحققت في عهده ولكن ظهور فيروس كورونا المستجد خلط حساباته، وهو ينذر بتراجع اقتصادي كبير يقول البعض أنه قد يصل الى درجة الكارثة.  مع مرور الزمن بدأ يتضح أن هذا الفيروس سيكون معنا لفترة من الوقت مما أدى بكثير من العلماء وصناع القرار إلى قناعة بأن الدول سوف تضطر إلى الشروع في تطبيع الحياة قبل نهاية الوباء.
بل من المزعج ما تنبأ به مدير مركز السيطرة على المرض في أمريكا
(CDC)
من أن فيروس كورونا المستجد قد يعود ثانية في الشتاء مع موسم الانفلونزا وقد يكون أشد ضراوة وفتكاً.  لقد أثبتت سياسات التباعد الاجتماعي وخاصة الحظر والإغلاق واوامر البقاء في المنازل نجاحاً عندما طبقت في الصين والولايات المتحدة ودول أوروبية وآسيوية. ولكن
مع إستمرار الحظر والإغلاق ينزلق الاقتصاد الى ركود عميق.  إذن يواجه العالم مقايضة صعبة بين إنقاذ الأرواح وتجنب أضرار إقتصادية جمة، تهدد الحياة أيضاً.  تحت هذه الضغوط شرعت الدول المختلفة في عمليات فتح ممرحللاقتصادياتها وفق ضوابط وموجهات،  ووسط ارتفاع أصوات المعارضين من الأطباء وبعض القيادات السياسية والمجتمعية، ينذرون من أن أي فتح للاقتصاد سابق لأوانه يحمل في طياته خطر الردة وإعطاء الفرصة للفيروس لمعاودة الإنتشار. في حالة عدم وجود علاج ناجع أو مصل، فإن عملية التباعد الاجتماعي تصبح الطريقة الوحيدة لوقف إنتشار الفيروس.  لذلك إقتنعت العديد من الحكومات أن أفضل طريقة لتقليل إتصال الناس ببعضهم الى الحد الأدنى هي عمليات الإغلاق الكاملة.  وفيها يسمح للأشخاص بالخروج فقط للضرورة القصوى مثل شراء الطعام أو الدواء.
لقد أثبتت التجارب أن الإغلاق الكامل أداة فعالة في التقليل من إنتشارالفيروس رغماً عن التحديات التي تصاحبه والعواقب الاقتصادية الوخيمة.
ولكن عدد من الدراسات والأوراق العلمية تدعو الدول الفقيرة الى التفكير مرتين قبل إنفاذ قواعد التباعد الاجتماعي، وخاصة الإغلاق الكامل.
نستعرض في هذا المقال دراسة أجراها البروفسير أحمد مشفق مبارك ودكتور زكاريبارنيتهاول يحذران فيها من عواقب الإغلاق الكامل في الدول الفقيرة.
نشرت الدراسة مجلة فورين بولسي
)Foreign Policy)
بتاريخ 10 أبريل 2020.  بروفسير مبارك بنغالي الأصل يعمل أستاذاً للإقتصاد في جامعة ييل المرموقة في الولايات المتحدة الأمريكية وهو صاحب مساهمات معتبرة في مجالات إقتصاديات التنمية والبيئة.  عاونه في الدراسة زكاريبارنيتهاول الباحث في جامعة ييل.
يقر الكاتبان في مطلع مقالهما بأن مستويات التباعد الاجتماعي التي تم تنفيذها في الصين واوروبا ومعظم الولايات المتحدة كانت ضرورية، وقد قبل مئات من الملايين من الناس إضطرابات كبيرة في حياتهم وخسائر إقتصادية كبيرة، ثمناً مقبولاً لمكافحة إنتشار فيروس كورونا المستجد.
يقدم الكاتبان السند العلمي لهذه المعادلة باستخدام النماذج الوبائية
(Epidemiological Models)
التي يمكنها التنبؤ بعدد الحالات ومعدل الوفيات في حالة عدم التدخل لوقف إنتشار الفيروس.  وقد أكدت النماذج الوبائية أن عدم التدخل لكبح جماح الفيروس يؤدي إلى فقدان مئات الألاف الى ملايين الناس، وهي نتيجة تبرر التدخل مهما كانت التكلفة الاقتصادية حتى لو أدت إلى ركود لم تشهد الإنسانية مثله في مائة عام.  ولكن كاتبي المقال يستدركان أن منطق الإستجابة لعوامل التباعد الاجتماعي مأخوذ عن تجارب مجتمعات صناعية غنية، ومن المناسب أن نتساءل إذا كانت هذه الإجراءات وخاصة الإغلاق الكامل في دول ذات دخل منخفض أو متوسط تنتج فوائد تفوق التكاليف والخسارة الناتجة عن الإغلاق.
يقدم الكاتبان عدة أسباب لتفسير التباين بين الدول الصناعية المتقدمة والدول الفقيرة في مقايضة إجراءات الإغلاق الكامل وتلافي أو تقليل الخسائر الاقتصادية الهائلة، ويفترض الكاتبان أنه من الممكن أن تؤدي عمليات الإغلاق الصارمة في البلدان الفقيرة، حيث يعتمد كثير من الناس على العمل اليومي اليدوي لإطعام أسرهم، الى أعداد وفيات ناتجة عن الحرمان والأمراض التي يمكن الوقاية منها، مقاربة للوفيات الناتجة عن الإصابة بالفيروس أو أكثر.
يعتبر العامل الديمغرافي مهماً جداً، حيث يقدر عدد الوفيات بنحو 6.4 في المائة في الأشخاص فوق سن الستين عاماً، ويصل الى أكثر من 13 في المائة للأشخاص فوق سن الثمانين. وفقاً للبنك الدولي فان البلدان ذات الدخل المنخفض (حيث يقل دخل الفرد عن ألف دولار في السنة)، لديها نسبة 3 في المائة من الناس الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً، بينما تبلغ هذه النسبة في المتوسط 17.4 في المائة في الدول الغنية.
استخدم بروفسير مبارك ودكتور هاول نموذج للوبائيات انتجته كلية إمبريال في جامعة لندنللتنبؤ بنسبة الوفيات بين السكان بسبب فيروس كورونا المستجد مع إفتراض عدم القيام بأي مكافحة للإنتشار.أظهرت نتيجة هذه المقارنة أن فيروس كورونا المستجد في هذه الحالة سيقتل حوالي 4 .0في المائة من سكان بنقلاديش، وحوالي 0.2 في المائة من سكان افريقيا جنوب الصحراء، بينما ترتفع النسبة الى حوالي في المائة للولايات المتحدة والدول المتقدمة الأخرى.
قام الكاتبان بتقدير قيمة التباعد الإجتماعي ومقارنتها في دول غنية وأخرى فقيرة.  تطبيق التباعد الاجتماعي بنفس الدرجة من الفعالية في هذا النموذج، أتاح التنبؤ بعدد الناس الذين يمكن أن تنقذهم سياسة التباعد الاجتماعي من الموت بفيروس كورونا المستجد، وكانت الأعداد هي:- مليون وثلاثمائة ألف شخص في الولايات المتحدة و426,000 في ألمانيا بالمقابل يتوقع أن تنقذ نفس السياسات فقط 182,000 شخص في باكستان و102,000 في نيجيريا.
ولكن:كم من الأرواح تتعرض للخطر نتيجة تطبيق سياسة التباعد الاجتماعي في البلدان الفقيرة؟  يلخص الكاتبان رأيهما في أن عمليات الإغلاق واسعة النطاق واوامر الإقامة في المنزل حققت منافع كبيرة عند تطبيقها في الولايات المتحدة وأوروبا غير أن الصورة أقل وضوحاً في البلدان المتوسطة أو منخفضة الدخل.
يعبر الكاتبان عن قناعة راسخة بأن عمليات الإغلاق في البلدان الفقيرة لا تستحق عناء تطبيقها.  في تلك الدول يمكن أن تؤدي عمليات الإغلاق إلى المزيد من الوفيات بسبب الجوع وامراض أخرى، بينما ستنقذ عمليات الإغلاق أرواحاً أقل في الدول الفقيرة مقارنة مع الدول الغنية.
يقول الكاتبان:  ” بصراحة، يمكن أن يؤدي فرض عمليات حظر صارمة في البلدان الفقيرة، حيث يعتمد الناس في كثير من الأحيان علىاليد العاملة اليومية لكسب قوتهم وقوت اسرهم، إلى عدد مماثل من الوفيات بسبب الحرمان، والأمراض التي يمكن الوقاية منها “.
يخلص المقال الى أن سياسات التباعد الاجتماعي التي أثبتت نجاعتها في تقليل إنتشار فيروس كورونا المستجد في الولايات المتحدة وأوروبا، قابلة للتطبيق بالكامل في أجزاء أخرى من العالم.  ولكن التحليل الذي قام به الباحثان يشير إلى أن الفائدة المرجوة من سياسات التباعد الاجتماعي والتي تشمل حظر التجوال واوامر البقاء في المنازل أقل كثيراً في الدول الفقيرة عن الدول الغنية. علاوة على ذلك فإن هناك دليل على أن الكلفة الاقتصادية لهذه السياسات ستكون أعلى في الدول الفقيرة، خاصة على كاهل الفقراء.
لذلك تصبح الحاجة ماسة لإجراء تقييم جاد وعاجل لمحاولة إستقصاء كل التدابير الأخرى التي يمكنها إنقاذ الأرواح مع تقليل الخسائرالإقنصاديةوالإجتماعية في المجتمع.
يقترح كاتبا المقال، أن النموذج الذي قدماه يمكن توسيعه لإستكشاف وتقييم السياسات البديلة
(وتشمل تدابير الحد من الضرر) والتي تسمح للناس في البلدان منخفضة الدخل بتقليل خطر فيروس كورونا المستجد مع تجنب المخاطر الاقتصادية قدر الإمكان:-
1.   الكمامات وأغطية الوجه يمكن أن تكون مصنوعة محلياً أو في المنزل بتكلفة بسيطة.  عليه فمن الممكن فرض إرتداء الكمامة أو غطاء الوجه على كل من يغادر منزله في كل البلدان.
2.   إستهداف كبار السن والمجموعات ذات الخطورة المرتفعة بالعزلة الاجتماعية، بينما يسمح للآخرين أو المنتجين ذوي الخطورة المنخفضة بمواصلة العمل.  في مثل هذه الحالة يجب على الأسر عمل ترتيبات داخلية لحماية الأشخاص كبار السن أو ذوي الخطورة العالية من العدوى التي يمكن أن يحملها الأفراد العاملين في الأسرة.
3.   تسهيل الوصول الى مياه نظيفة، وغسل اليدين والصرف الصحي والسياسات الأخرى المكملة، وذلك لتقليل الحمل الفيروسي
(Viral Load) .
4.   توسيع وتفعيل التأثير الاجتماعي والحملات الإعلامية لتشجيع أنماط السلوك التي تساعد على إبطاء إنتشار المرض ولكن لا تقوض أسباب العيش. يمكن أن يشمل ذلك فرض قيود على حجم التجمعات الدينية والإجتماعية وتعميم برامج لتشجيع وتمكين القيادات المجتمعية والدينية من إعتماد سلوكيات تؤدي الي السلامة والأمان وإيصال هذه الرسائل للناس بوضوح
إذا كان ولابد من إنفاذ التباعد الاجتماعي على نطاق واسع، فلابد من بذل كل جهد ممكن لتوفير الطعام والوقود والمال للأشخاص الأكثر عرضة لخطر الجوع والحرمان. سيظل هذا الأمر يشكل تحدياً كبيراً للدول التي لم تطور بنية تحتية جيدة لإنفاذ مطلوبات الحماية الاجتماعية، كما هو الحال في الدول الفقيرة.

يحتاج هذا الجهد لتضافر الحكومات والقطاع الخاص والقطاع الإنساني ومشغلي الهاتف النقال وشركات التكنولوجيا لتجريب حلول مبتكرة لدرء الأضرار المحتملة من تطبيق سياسات الإغلاق، حتى لا يكون أسوأ من الداء أو مثله في الضرر.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

error: