في خبطة صحفية نادرة، كشفت صحيفة (سودان تربيون) الإلكترونية عن مكاتبات تمت بين إسرائيل ومحمد أحمد عمر المحسوب على حزب الأمة، وأعادت الخبطة إلى الأذهان حديثاً عن العلاقة بين الحزب والدولة العبرية، وهو أمر دار فيه من قبل نقاش وبحوث ودراسات ومساجلات، غير أن المادة الصحفية حفزت الكثيرين على معرفة المزيد من المعلومات عن محمد أحمد عمر نفسه ،والذي عنونت الصحيفة الإلكترونية مادته بـ(رجل إسرائيل في السودان أم مهندس علاقتها مع حزب الأمة؟)، فالمعلومات المتوفرة عن “عمر” شحيحة إلى حد بعيد، ربما لاعتبارات الغموض الذي يكتنف شخصيته :
جاء في صحيفة “سودان تربيون “،أن المصادر التاريخية لا تحفل بالكثير عن هذه الشخصية الغامضة سوى أنه ولد حوالي العام 1918 وكان عضواً في حزب الأمة والجبهة الاستقلالية ومديراً لتحرير صحيفة (النيل) الناطقة باسم الحزب.
وأسس أيضاً وكالة الصحافة السودانية التي كانت تصدر نشرة يومية باللغة الإنجليزية إلى أن تم إغلاقها عام 1960 بأمر وزير الداخلية في نظام الفريق إبراهيم عبود لمخالفتها قوانين النشر.
من جانبه، يضيف الأستاذ محجوب محمد صالح رئيس تحرير صحيفة (الأيام) وأحد أبناء جيل محمد أحمد عمر أن ثمة صداقة جمعته بـ”عمر” في فترة من الفترات، لكنه لا يعرف عنه الكثير سوى أنه خريج كلية غردون وعمل قبل التحاقه بالصحافة موظفاً حكومياً، وبعد التحاقه بالصحافة أسس وكالة (SPA) وهي وكالة متخصصة في ترجمة المقالات في الصحف السودانية وتوزيعها على مجتمع الأجانب في الخرطوم من سفراء وممثلي منظمات دولية، ثم – والحديث لمحجوب محمد صالح – أسس وكالة أخرى بشراكة مع (خواجة) بريطاني اسمه جيمس ديفيد، وبعد تركه للصحافة اتجه للنشاط التجاري وعمل في مجال تصدير الحبوب الزيتية إلى قبرص على وجه التحديد.
ويضيف صالح في حديثه لـ(السوداني) أمس أنه أثناء عمل “عمر” في تصدير الحبوب إلى قبرص تنامى إلى أسماع الناس في الخرطوم أن ذات الحبوب تصل إلى تاجر يهودي في قبرص الذي بدوره يعيد تصديرها إلى إسرائيل، لكن محجوب محمد صالح لا يجزم بصحة هذه الرواية كلياً، ويقول إنهم كانوا فقط يسمعون بها.
وتقول صحيفة (سودان تربيون) ومصادر أخرى إن محمد أحمد عمر انتمى لحزب الأمة لكنه استقال منه في عام 1949 .وفي أواخر عام1951 أسس (حزب السودان) الذي كان من بين أهدافه الرئيسية استقلال البلاد.
لكن رباح الصادق المهدي تؤكد أن محمد أحمد عمر لم يكن في يوم من الأيام قيادياً في حزب الأمة، فقط استعان به الحزب كعضو في أمانة العلاقات الخارجية لتمكنه في اللغة الإنجليزية والترجمة، ولا تستبعد رباح فرضية الاستفادة منه في بعض الاتصالات. وأشارت رباح في حديث لـ(السوداني) إلى أن الرجل وحسب المصادر التاريخية كان يسوق نفسه على أساس أنه شخصية عظيمة في حزب الأمة، وهو أمر ليس بصحيح.
ويؤكد محجوب محمد صالح أن التوجهات السياسية لمحمد أحمد عمر بدأت استقلالية محضة وكان قريباً من السيد صديق، وكان يحدثهم عن وجود صلة قرابة بينه وبين آل المهدي.
وللأستاذ الصحفي أحمد علي بقادي رأي آخر، ينفي فيه لـ(السوداني) ثبات محمد أحمد عمر على توجه سياسي معين، فقط كان يلعب دوراً واحداً خلال معايشتهم له من بعد في الستينيات، ويلخص بقادي دور الرجل في التقريب بين بريطانيا والأحزاب اليمينية.
الغموض :
يصف محجوب محمد صالح شخصية محمد أحمد عمر بالغموض رغم انفتاحه على كثير من الناس، مشيراً إلى أنه كان يسكن وحده(عزابي) في منزل في منطقة المقرن وانتقل للسكن في شمبات، وكان منزله في الحالتين مفتوحاً لكل أصدقائه، ولم يتزوج مطلقاً في حياته، ونمت ثروته بصورة كبيرة جعلته يعيش – حسب محجوب – في ترف ودعة، دون أن يعرف أحد مصادر دخله الحقيقية. وأضاف محجوب محمد صالح حينما يكون “عمر” بينك ويجالسك المجالس لا تشعر له بأي غموض.
ويتفق بقادي مع ما ذهب إليه محجوب محمد صالح في “غموضية” الرجل، وقال إن الكثيرين طرحوا تساؤلات عن الرجل دون أن يحصلوا على إجابة، فيما تقول رباح الصادق إن حياة محمد أحمد عمر تكتنفها شكوك كبيرة منذ وقت مبكر حتى مصدر أمواله لم يكن معلوماً بعد أن ظهرت عليه الثروة فجأة. وتوضح رباح أنها استقت هذه المعلومات الشفاهية من ثقاة عايشوا تلك الفترة.
وفي حوار أجرته سلمى التجاني مع د. صلاح البندر، تحدث عن الشخصية الغامضة ، لكنه لم يذكر اسمه، فقط أشار له بالحروف (م، أ،ع) ،حيث قال عنه بأنه من أكثر الشخصيات السياسية السودانية غموضاً. ويوضح البندر أنه بحث عن خلفيته في دار الوثائق السودانية والبريطانية وسأل عنه عدداً من معاصريه، ولكن المعلومات عنه شحيحة. ويشير البندر إلى أن الحذر من (م،أ) جاء حتى من البريطانيين الذين حذروا السيد الصديق منه.
أما أحمد بقادي فيكشف عن أن “عمر” كان لا يقترب بعلاقة من الصحفيين، وكانت علاقاته محصورة مع رؤساء الأحزاب وكبار الإعلاميين، فيما يقول تقرير “سودان تربيون” إن الدبلوماسي الإسرائيلي موردخاي جازيت رسخ لديه انطباع بأن محمد أحمد عمر شخص جاد وصادق ولطيف ومثقف ثقافة عالية.
لقاء الصديق ومردخاي :
الأمر الذي لا ينكره أحد أن محمد أحمد عمر رتب للقاء بين السيد الصديق المهدي رئيس حزب الأمة ومردخاي جازيت السكرتير الأول للسفارة الإسرائيلية بلندن في يوليو 1954م، وتم الاجتماع في فندق السافوي بوسط لندن، لكن نقطة الخلاف الأساسية في الهدف من الاجتماع وهل كان مدخلاً لعلاقات استمرت فيما بعد.
يجيب الأستاذ محجوب محمد صالح بأن الحديث عن ذلك اللقاء لم يكشف فقط من خلال ما نشرته “سودان تربيون” لكنه قديم، والجديد في الوثائق هو الشكوك الإسرائيلية نفسها حول محمد أحمد عمر إذ جاء في الوثائق أن الإسرائيليين كانوا يشكون في توقيعات رسائل تصلهم باعتبار أنها واردة من السيد الصديق ويرجحون أن موقعها هو محمد أحمد عمر نفسه، وأضاف أن التواصل لم يستمر بين الطرفين بعده.
أما الصادق الصديق المهدي الرئيس الحالي لحزب الأمة فقد جزم خلال إستضافته في برنامج “شاهد على العصر” في قناة الجزيرة بأن اللقاء الذي رتب له “عمر” وجمع والده مع المسؤول الإسرائيلي لم يسفر عن أي نتيجة.
.
أما صلاح البندر فذكر أنه وفقاً لما اطلع عليه من وثائق فإن أجندة اللقاء تدور حول تمويل حزب الأمة لمواجهة التدخل المصري في السودان، وفتح قنوات تجارية مع السودان لكسر الطوق العربي المفروض حول دولة إسرائيل، وأن إسرائيل كانت تهدف أساساً لخلق علاقة يمكن تطويرها مستقبلاً تكلل باعتراف السودان رسمياً بها
أما رباح الصادق فتتفق تماماً مع ما ذهب إليه والدها، وقالت لـ (السوداني)إن اللقاء لم يسفر عن أي شيء وأن الاجتماع ناقش قضية تصدير القطن خاصة وأن شركات اليهود التجارية كانت موجودة في الخرطوم وتعمل جنباً إلى جنب مع رصيفاتها التي يمتلكها سودانيون.
كيف إنتهى عمر ؟
لا يتذكر تماماً محجوب محمد صالح تاريخ وفاة محمد أحمد عمر، لكنه يتذكر أنه في آخر سنينه ساءت أحواله المادية وعاد إلى السكن مع أسرته في أم درمان، وانقطعت سيرته التي نفضتها الوثائق من بعد ذلك، هذا وقد حاولت “السوداني ” التواصل مع أسرته للمزيد من المعلومات لكنها فشلت في ذلك، في حين يتوقع أن تكشف الحلقات المقبلة لـ”سودان تربيون” المزيد من التفاصيل عن (رجل إسرائيل في السودان أم مهندس علاقتها مع حزب الأمة).
نقلاً عن السوداني
التعليقات مغلقة.