الخرطوم ــ عبد الحميد عوض
أكمل الحراك الشعبي في السودان المناهض لحكومة الرئيس عمر البشير، شهره الأول، تصاعدت خلاله آمال الكثير من السودانيين بإمكانية وصوله إلى محطته الأخيرة بتنحي البشير، والترتيب لوضع انتقالي يؤدي إلى إحداث تغيرات وإصلاحات مفصلية في الدولة السودانية.
وبدأ الحراك الذي اتخذ شكل التظاهرات والاحتجاجات السلمية، في 19 الماضي، حين خرج محتجون بشكل متزامن في مدينة عطبرة (شمالاً) وبورتسودان (شرقاً) للتنديد بندرة السلع الضرورية وغلاء الأسعار، خصوصاً الخبز. وسرعان ما انتشرت الاحتجاجات خلال فترة الثلاثين يوماً الماضية في عشرات المدن والقرى بينها العاصمة الخرطوم، لتتحوّل المطالب من توفير السلع الأساسية من خبز ووقود وسيولة مالية ودواء، إلى المطالبة بسقوط النظام، وتصبح شعارات وهتافات المحتجين “الشعب يريد إسقاط النظام”.
ومع مرور الأيام وبعد أن كانت الاحتجاجات تأخذ طابعاً عفوياً ومن دون تنظيم من أي من جهة، برزت الأحزاب السياسية المعارضة في الواجهة، وتبنّت المطالب الشعبية وتكفّلت بتنظيم الاحتجاجات، بعد أن تجاوزت خلافاتها السياسية وحتى الأيديولوجية، وشكّلت تنسيقية خاصة لإدارة العمل، اشترك فيها تحالف “نداء السودان”، وهو تحالف يضم حزب “الأمة” القومي وحزب “المؤتمر السوداني”، وأحزابا أخرى في الداخل إضافة لحركات مسلحة تقاتل في أطراف السودان.
كما شارك في التنسيقية تحالف “قوى الإجماع الوطني” و”التجمّع الاتحادي” المعارض، بينما برز بشكل لافت وفاعل “تجمّع المهنيين السودانيين” وهو جسم معارض يضم التنظيمات النقابية المعارضة، الأمر الذي قاد إلى تصاعد الاحتجاجات الشعبية يوماً بعد يوم. فمن عشرات المحتجين في الموكب الواحد خلال الأيام الأولى، بدأت ترتفع الأعداد إلى المئات، حتى إلى الآلاف في بعضها.
كما كان لافتاً خلال هذه الشهر انسحاب عدد من أحزاب الحوار الوطني الشريكة في الحكومة من عملية الحوار والانحياز للمطالبات الشعبية بتنحي البشير. ومن بين تلك الأحزاب حركة “الإصلاح الآن” التي قررت سحب ممثليها في البرلمان القومي والبرلمانية الولائية (المناطقية)، ما تُعد ضربة موجعة لحزب “المؤتمر الوطني” الحاكم وحكومته، اللذين ظلا في رهان دائم على آليات الحوار الوطني.
من جهتها، قابلت حكومة البشير، الحراك الشعبي بأدوات العنف، واستخدمت الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي لتفريق المتظاهرين، كما اتهمتها المعارضة باستخدام الرصاص الحي في بعض المرات، ما أدى إلى سقوط أكثر من 40 قتيلاً بحسب منظمات حقوقية ومعارضة. لكن الحكومة لم تقر حتى اليوم بذلك ولم تتحمل مسؤولية أحداث القتل التي قالت إنها 24 حالة فقط، وشكّلت لجنة لتقصي الحقائق حولها.
كما عمدت الحكومة وحزب “المؤتمر الوطني” الحاكم، إلى اتهام “حركة تحرير السودان” بقيادة عبدالواحد محمد النور باستغلال التظاهرات السلمية والقيام بعمليات تخريب ونهب وسرقة، مع الإشارة إلى دعم للحركة من إسرائيل بهدف زعزعة الاستقرار. لكن تلك الاتهامات لم تصمد طويلاً، إذ حوّلتها الحكومة باتجاه “الحزب الشيوعي” ولمن تعتبرهم أعداء السودان في الداخل والخارج، من دون تسميتهم علناً. كما سعت الحكومة التي تكرر اعترافها بوجود أزمة اقتصادية، إلى الرد على الحشود الشعبية بحشود مماثلة، كما حدث في الساحة الخضراء في الخرطوم وعدد من الولايات، حيث خاطبها البشير نفسه ليرسل رسالة أن الشعب السوداني ما زال يقف معه.
وفي آخر تجليات تعامله مع الاحتجاجات، دعا المكتب القيادي للحزب الحاكم إلى حوار مع الشباب، مع التشديد على حرصه على الاهتمام بقضايا الشباب خصوصاً ما يتعلق بالتوظيف، في ظل انتشار البطالة وسط خريجي الجامعات، والحديث المستمر عن تمييز في عمليات التوظيف باختيار الموالين للحزب الحاكم بغض النظر عن كفاءاتهم وتجاوز غيرهم.
وعلى الرغم من كل التعاطي الأمني والسياسي مع الاحتجاجات، فإنها لا تزال، حسب تقدير كثير من المراقبين، تحقق يوماً بعد يوم الكثير من المكاسب، يمكن تلخيصها في الآتي:
- كسر حاجز الخوف: المكسب الأهم الذي يشير إليه كثيرون يتعلق بنجاح الحراك الشعبي في كسر حاجز الخوف، فطوال ثلاثين عاماً من عمر الحكومة الحالية، ظل الشارع متردداً أمام أدوات القمع التي تمتلكها الحكومة بوجه الخروج ضدها والعصيان، ولم يسبق أن خرجت تلك الأعداد من المتظاهرين باستثناء احتجاجات العام 2013 ضد رفع الدعم عن المحروقات. وحتى بعد أن قُتل عدد من المتظاهرين واعتُقل المئات منهم وتعرضوا لتعذيب شديد، حسب ما ذكر بعضهم، فإن ذلك لم يمنع استمرار الاحتجاجات، مع تحدٍ وإصرارٍ كبيرين على الوصول إلى الهدف.
- إحراج الحكومة: أرغمت التظاهرات السلمية الحكومة أولاً على العمل بجدية من أجل حلحلة الأزمات في السلع الضرورية، وبات الولاة الأحرص على توجيه الإيرادات المالية لتوفير الخبز والوقود، ونجحت الحكومة في ذلك بصورة نسبية في الأسابيع الماضية، قبل أن يعود الحديث عن الندرة، بينما لم تبارح أزمة السيولة مكانها.كذلك وجدت
الحكومة نفسها مرغمة على تغيير خطابها الذي كانت تواجه به أي احتجاجات، مثل عبارات “لحس الكوع” التي تعبّر عن استحالة تغيير النظام أو العبارات التي كان فيها كثير من المنّ على الشعب. ومضى البشير أبعد من ذلك، حينما تحدث أمام حشد من مناصريه في الساحة الخضراء عن إمكانية تنازله عن السلطة لصالح الشباب متى ما نظموا أنفسهم، وعلى الرغم من عدم ذكره مزيداً من التفاصيل حول ذلك، لكن ذلك الحديث هو الأول من نوعه الذي ترد فيها إشارات بذلك المضمون.
- دور الشباب والمرأة: تمثّل شريحة الشباب المكوّن الرئيس للاحتجاجات الأخيرة، وقبلها كانت قد ترسخت اعتقادات وقناعات بأن الشباب السوداني منغلق تماماً على نفسه ومهتم بالرياضة والفن واللهو، ومنكبّ على وسائل التواصل الاجتماعي، مقابل الابتعاد عن القضايا الوطنية والمجتمعية. لكن ما حدث خلال الشهر الماضي غيّر المفاهيم كلياً، وأثبتت الأحداث أن الشباب موجودون في قلب الهمّ الوطني، وأنهم يدركون ما يحدث وبعمق، مع استعداد تام منهم للتضحية، فغالبية القتلى والجرحى والمعتقلين من الشباب.
- ودفع هذا الحضور الشبابي حزب “المؤتمر الوطني” الحاكم إلى الإقرار في اجتماع لمكتبه القيادي قبل يومين بضرورة فتح قنوات الحوار مع القطاعات الشبابية والاهتمام بقضايا التشغيل والتوظيف، وهي دعوة قد لا تجد استجابة في الوقت الراهن وسط أجواء التوتر والاحتقان.
ولم يكن الشباب وحدهم في شوارع الاحتجاجات، فبرزت أيضاً المرأة كعنصر قائد ومحمس، وتعرضت هي الأخرى لحملة الاعتقالات. وتعتقد ناشطات في مجال الدفاع عن حقوق المرأة، أن خروج النساء، خصوصاً الفتيات، له أكثر من دافع في ظل التمييز الذي واجهته طوال فترة النظام الحالي، ومحاكمتهن بسبب لباسهن بالجلد والغرامة. كذلك برز حضور الفنانين والشعراء ورموز المجتمع في الاحتجاجات أو عبر تأييدها على مواقع التواصل الاجتماعي.
- قومية التظاهر: أثبتت خريطة مدن الحراك الشعبي تمتعه بقومية تجمع جهات السودان المختلفة، فإذا كان مهد الحراك مدينة عطبرة وبورتسودان، فإن الحراك شمل بعد ذلك مناطق أخرى، مثل الأبيض وأم روابة والرهد في غرب السودان، ومدني ورفاعة والمناقل في الوسط، وربك والدويم والجزيرة أبا في الجنوب، والقضارف وكسلاً أيضاً في شرق السودان. وعلى الرغم من تردد مدن دارفور في الانضمام للتظاهرات السلمية بداية، إلا أنه خلال الأيام الأخيرة بدأت فيها بعض التحركات، كما حصل في نيالا والفاشر ومدينة الجنينة.
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.