أخبرني من أثق به: أنه كان ضمن تنسيقيَّة احتجاجات سبتمبر 2013، وكانت
التوجيهات الصادرة عدم ظهور قيادات المعارضة ومنع الحركات المسلحة من
إصدار بيانات تأييد.
صدور ذلك التوجيه، كان يستبطن قناعة لدى مُصدريه، أن ظهور تلك القيادات
قد يُسهم في توقف المدِّ الثوري، لإحساس المواطن بأنهم يمثلون البديل
المُتاح للنظام.
بالمتابعة والرصد والتحليل للاحتجاجات السابقة، خلال الثلاثين عاماً،
كلَّما ظهرت قيادات المعارضة بمواقفها الانتهازية المُتلوَّنة وانتقالها
بين الموائد دون أن تغسل يديها، تراجعت التظاهرات وانحسر مدُّها إلى حدود
التلاشي.
-2-
الحقيقة الساطعة، أن المعارضة التقليدية اليمينية واليسارية، تُمثِّل
أكبر داعمٍ لبقاء نظام الإنقاذ واستمراره في الحكم حينما تطرح نفسها
كبديل له، حال حدوث التغيير.
حينما استطاع تجمَّع غامض للمهنيين أن يُنظِّم مسيرتين في قلب الخرطوم
ويُحقَّق فيهما نجاحاً نسبياً، برزت قوى المعارضة على عجل ،لتجني ثمار
الشجرة قبل زرعها، وتوزيع اللحم قبل ذبح الكبش على وصف الحاج وراق.
مع تراجع مظاهر الأزمات الاقتصادية، ستضعف مشاركة المواطنين غير
المُسيَّسين وسيصبح النشاط الاحتجاجي محصوراً في الحزبيِّين والناشطين.
-3-
قلنا من قبل وسنعيدها الآن:
كلما تذكَّر الشعبُ أن أحزاب المعارضة تطرحُ نفسها كبديلٍ للنظام
الموجود، عزف عن الخروج، واحتمل ما يُعانيه في انتظار فرج قادم.
الشعب السوداني يتذكَّر كيف انتهت ثورة أكتوبر إلى صراع ومكائد، ثم تصاعد
الهتاف (ضيعناك وضعنا وراك يا عبود).
الشعب السوداني يتذكر كيف أُجهضت انتفاضة أبريل بضعف الأداء والتنازع على
الغنائم؛ فتحسَّر الناس على أيام جعفر نميري.
هذه الذاكرة الحاضرة، منعت الشعب السوداني قبل ثمانية أعوام، من الانخراط
في دراما الربيع العربي التي انتهت إلى تفكيك الدول وانهيار المجتمعات.
الشعب السوداني، أخذ جرعتين من التجارب الثورية، فاكتسب مناعة من
الاستدراج لسيناريوهات الفوضى والعدم، عبر التغيير الثوري الفوري الذي لا
ينتهي إلا لما هو أسوأ.
-4-
تجارب الربيع العربي وما أفضت إليه، أوضحت صحَّة تقديرات الشعب السوداني
وسلامة موقفه، بالامتناع عن إعادة إنتاج التجارب الخاسرة.
السودان وطنٌ ملغومٌ بالأزمات، وقابلٌ للانفجار أكثر من سوريا واليمن
وليبيا والعراق.
التظاهراتُ قد تبدأ سلميةً، ولكنها سرعان ما تخرج عن السيطرة وتنفلت
الأوضاع؛ فتسقط في هاوية سحيقة.
حتى في الديمقراطية الثالثة، في عهد الصادق المهدي، كانت الجبهة
الإسلامية – حزب المعارضة – تُحرِّكُ الشارع (الشباب والطلاب) ضدَّ زيادة
الأسعار.
تبدأ التظاهرات سلميةً، وتنتهي إلى عنف وتخريب، فتردُّ السلطات بعنف مُضاد.
-5-
في عهد السيد الصادق المهدي في الديمقراطية الثالثة، قُتِلَ طُلّاب برصاص
الشرطة، واعتُقلتْ طالبات في الحراسات لأيام.
في السودان، تتغيَّر مواقف السياسيين بتغيُّر مواقعهم، وللحكم أدواتٌ
متوارثة ملوثةٌ بالمصالح والفساد، وللمعارضة ثقافة حاكمة، خبيثة
وانتهازية، تُضحِّي بالمواطنين من أجل مقاعد السلطة.
ثقافة الفعل المُعارض في السودان، قائمة على تهييج الشارع ضد النظام
الحاكم، ثم انسحاب السياسيين إلى المخابئ، وترك الطلاب والشباب يواجهون
مصيرهم مع السلطات الأمنية.
في ثقافة النادي السياسي، المواطن في أمنه وصحته ومعاشه، هو وسيلة لتحقيق
المكاسب، بغض النظر عن طبيعة تلك المكاسب.
-6-
الإسلاميون (الوطنيون والشعبيون)، ليسوا استثناءً من هذا الداء العضال،
حينما اختلفوا مع بعضهم كان مواطن دارفور هو الضحية.
وحينما كانوا في المعارضة لم يتوَّرعوا عن استخدام سلاح التظاهرات والإضراب.
حتى فلسفة العمل المُسلَّح، قائمة على استفزاز الحكومة أمنياً، ليصدر
منها ردُّ فعلٍ عسكري، تترتَّب عليه أزمة إنسانية، تفتح الباب لتدخُّل
دولي، يأتي بتسوية سياسية مُتفاوَض عليها في الثروة والسلطة.
أدرك المواطن بفطنة وذكاء، أنه في قوانين اللعبة السياسية وسيلة، وليس غاية.
حتى لا تطمئنَّ الحكومةُ كثيراً، إذا لم يحدث الإصلاح الشامل، ويتيسَّر
معاش الناس في حدود صون كرامتهم الإنسانية، وتتم محاربة الفساد بعيداً عن
التسويات، سيخرجُ المُواطن للتَّظاهر والمُواجهة المفتوحة، دون اعتبارٍ
لما يترتَّب على ذلك.
-أخيراً-
سيخرج المواطن دون عودة، لا بأمر الحزب الشيوعي أو غيره، ولكن إذا جاءت
الساعةُ الخامسةُ والعشرون، معادلة الصفر وأوان الآزفة.
ساعة اليأس وفقدان الأمل وانغلاق الأفق، حين يصبح البقاء في المنازل
أصعب من الخروج إلى الشارع لمواجهة كل الاحتمالات.
حينها سيصبح الموت والحياة على حد سواء.
التعليقات مغلقة.