الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أدّبه ربّه فأحسن تأديبه، فلم يكن سبّاباً، ولا فاحشاً، ولا لاعناً. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وعلى عباد الله الصالحين، أولئك الذين امتدحهم الله بقوله: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) [الفرقان: 72].
أما بعد إخوة الإسلام:
إن من يتأمل في آيات القرآن الكريم، وأحاديث المصطفى – عليه الصلاة والسلام -، يلحظ تركيزاً واضحاً واهتماماً بالغاً بمسؤولية الكلمة وأمانة النطق، فالرقابة على ما ينطق به الإنسان لصيقة ودقيقة: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]، والمسؤولية شاملة: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء:36].
والكلمة عباد الله ليست عبثاً فارغاً، ولا لغواً آثماً: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُون) [المؤمنون:1-3]؛ بل هي في القولٌ السديدٌ الراشدٌ، والطريق للصلاح والاستصلاح، ومغفرة للذنوب، وهي قرينة التقوى، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
أيها المسلمون:
إن الكلمة كلمتان: طيبةٌ وخبيثة، وفي أمثال القرآن عظةٌ وعبرة، والله يقول: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ* يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم:25-28].
إخوة الإيمان:
إن مسؤولية الكلمة عظيمة ونبي الهدى – عليه الصلاة والسلام – يقول: “إنّ العبد ليتكلّم بالكلمة من رضوان الله، لا يُلقي لها بالاً، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلّم بالكلمة من سخط الله، لا يُلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم”
والكلمة التي يرفَع بها العبد درجات، ويُكتَب له بها الرضوان، هي التي يدفع بها عن المسلم مظلمة، أو يفرّج عنه كربة، أو ينصر بها مظلوماً.
إن أمانة الكلمة تستوجب منك أيها المسلم الحذر من أن تكون شيطاناً ناطقاً، أو أخرس، فتتحدث حين يلزمك الصمت، أو تسكت حين يلزم الأمر أو النهي، وهل يغيب عنك أن من لوازم الإيمان قول الخير أو الصمت؟ “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت”.
أيها المسلمون:
في ظل هذه الأجواء (المعروفة) التي نعيشها، تشتد الحاجة لأمانة الكلمة، وتتعاظم مسؤوليتها على العلماء، والمسؤولين، والدعاة، والمفكرين، ورجالات الإعلام، والمربين، فمسؤولية الكلمة لدى العلماء البيان وعدم الكتمان، وميثاق الله أولى بالقضاء، وهو فوق أعراض الدنيا: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) [آل عمران:187].
أما المسؤول فيكفيه أن يتذكّر قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: “ما من أمير عشرة إلا وهو يأتي يوم القيامة مغلولاً، حتى يفكّه العدل، أو يوبقه الجور”. وفي الحديث الآخر: “ما من أمير يلي المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة”.
أما الدعاة، فمسؤولية الكلمة في دعوتهم ألسنة صادقة، وقلوب مخلصة، وحكمة في الدعوة، وحسن في الموعظة، ومجادلة بالحسنى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:125].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) [فاطر:10].
أفيعجز الإنسان عن مقارعة الباطل بالكلمة الصادقة، والحوار المقنع؟ وجهادُ الكلمة ضربٌ من ضروب الجهاد، لا يقلّ أثراً عن جهاد النفس والمال، كما قال -عليه الصلاة والسلام: “جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم”.
ألا ما أحوجنا إلى جهاد الكلمة حين تروج الشائعات الكاذبة، وتُطلُّ الفتن المضللة، ونحتاج إلى أمان الكلمة للدفاع عن عرض مسلم مظلوم، أو لردع ظالمٍ غشوم!.
وتتعاظم مسؤولية الكلمة حين يتبجّح المتفيقهون، ويتصدرون زمام المجالس، ومراكز القيادة، وتشتد الحاجة لقول كلمة الحق، حين يسكت العلماء، ويحار العُقلاء، في وقت يتنمّر فيه المنافقون، وينطق السفهاء!
ما أحوجنا لكلمة الحق حين تكمم الأفواه ويتسلط الغاشمون ويتجبر المستبدون وتؤكل أموال الناس بالباطل نهاراً جهاراً، ويطبق القانون على عامة الرعية ويُستثنى منه اللصوص من ذوي النفوذ حين تضعف الغيرة لدين الله، الحق ويلتبس الحق بالباطل!.
وفي ظل هذه الظروف الصعبة لا يكفي التلاوم الشخصي، ولا يجدي النواح على الواقع المتردي، وليس بنافع ولا شافع عند الله ترحيل المسؤولية للآخرين، (فأنتَ وأنا وهو) كلٌّ مخاطبٌ بإنكار المنكر: “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته ولا هماً إلا فرجته ولا مريضاً إلا شفيته ولا ميتاً إلا رحمته، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فهو الغفور الرحيم، وأقم الصلاة ..
__________
الجريدة
التعليقات مغلقة.