باج نيوز
موقع إخباري - أخبار اراء تحليلات تحقيقات بكل شفافية
Baraka Ins 1135*120

طلال عفيفي: في فقد الأمين: صبرٌ مأمول وعزاءٌ مُرتجى

1٬173
أي حزن وأي لوعة يمكن أن يختبرها القلب وهو ينصت لخبر غياب أمين مكي مدني المفجع المهول؟
أي مسافة يمكن للقلب أن يجتازها حتى يعود إلى نبضه العادي، والرئتين إلى تنفسهما والروح إلى سلامها؟
كان وجود أمين مكي مدني بيننا في الحياة باعثاً على الإطمئنان وعلى حسن الظن في الناس والحياة، بما كان يمثله من قوة وجسارة ورجاحة عقل وحنان نفاذ وعطف ملموس.
فقد السودانيون بغياب الأستاذ أمين أحد أشجع المقاتلين في الزود عن قضايا الشعب والناس، في معركة غاشمة ضد الظلم والطغيان واللؤم وهب لها عمره وعقله وروحه، وظل لسنوات طويلة هو رمانة الميزان بين الحق والباطل، بكل ما إعتمل فيه من الصدق والنزاهة والتجرد النادر العجيب.
في سنوات الثمانينيات عرفته جموع الناس واحداً من أبرز أعمدة الإنتفاضة، وكان قبلها الدينمو المحرك للنضال اليومي في مجالات مختلفة، في المجال القانوني والفكري وغيرهما.
كان أمين من فرسان جبهة العمل النقابي، حيث كان هو جوهر الإئتلاف بين نقابات المهن وبين الجامعة، وكان مع رفيقه بروفيسور محمد عمر بشير من مؤسسي المنظمة السودانية لحقوق الإنسان راصداً ومتقصياً للإنتهاكات ومنافحاً  بعزم لا يلين عن الضحايا، لم يوقفه إعتقال، ولم يفت من عضده مصادرة منزله، ولم يضعفه الحصار ومصادرة جواز سفره أو منعه من السفر.. ففي مدى النظر إلى قضايا الشعب السوداني كان الله قد كشف عنه الغطاء، وكان بصره حديد وقلبه حديد.. لم يتزحزح عن الحق، فظل صابراً ودؤوباً دأب النمل وأكثر في العمل على إستعادة الديمقراطية وحكم القانون والإستناد إلى المواثيق والعهود الدولية لحقوق الإنسان التي خطتها البشرية إثر نضالات طويلة في سفر التعاقد الإنساني على حياة أفضل.
لعب الأستاذ أمين مكي مدني الدور الأبرز في دفع الحكومة السودانية للمصادقة على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في عام 1986 والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العام نفسه وهي عهود ملزمة دولياً، ويوجب إنتهاك بنودها المسائلة، وهي كذلك العهود التي تم الإستناد عليها بعد حوالي عشرين عاماً في دستور السودان الحالي المسمى بالدستور الإنتقالي لسنة 2005، الذي جاء في ديباجته المعظمة أنه “إدراكاً منا للتنوع الديني والعرقي والاثني والثقافي في السودان، التزاماً منا بإقامة نظام لا مركزي وديمقراطي تعددي للحكم يتم فيه تداول السلطة سلمياً، وبإعلاء قيم العدل والمساواة وحفظ كرامة الإنسان ومساواة الرجال والنساء في الحقوق والواجبات” (..)
تلك اللغة الحكيمة الرفيعة لم تكن لتجد دربها إلى مسودة دستور دولة في العالم الثالث لولا النضال القانوني والإصرار العميق من أمين ورفاقه طوال سنوات ناهزت الثلاثين من الإيمان والعناد والأمل.
في القاهرة منتصف التسعينيات، والدمع السوداني مسكوب، وأفئدة الناس مفطورة على الشهداء والمعذبين والمعتقلين والمفصولين من العمل بشكل تعسفي، والطائرات والبواخر والجمال تجوب الدنيا محملة ببنات وأبناء السودان لتودعهم المنافي البعيدة كان أمين مكي ثابت الجنان رابط الجأش يكتب مؤلفاته العظيمة حول الخيانة الكبرى التي تعرض لها السودان وأهل السودان من مكتبه بالقاهرة.
كان وجوده في القاهرة حيوياً، حيث كان اللاعب الأكثر مهارة في ميدان إمتلأ بالسياسيين ومنتسبي المنظمات والأحزاب والأفاقين وقطاع الطرق.
لم يكن هيناً، ولا صاحب يد لينة وسط جو مشحون بالإستقطاب والتدليس وغياب الرؤية، بل كان ثاقباً ومحدداً، مسنوداً إلى عقل متقد وفؤاد ذكي وجسد فارع في إحتمال السهر..
عاد أمين مكي مدني إلى الخرطوم بعد توقيع إتفاقية نيفاشا، التي ظن بها الناس الخير، جاء حاملاً كل خبراته وآلامه وآماله، فساهم في بناء العديد من المؤسسات الحقوقية والمدنية، وفي تدريب الكثير من الكوادر الشابة، وفي تنشيط الفكر الحقوقي وسط المناخ السياسي الفج.
وحين ظهرت بوادر نقض العهود، وإنفصال الجنوب، والإنهيار الفعلي لإتفاقية السلام وإنتهاك الدستور، واصل أمين عمله، وإستمر في كفاحه المستميت المستجيش ضراوة، فلم يغاد الميدان، ولم يكتف بمكتب المحاماة الناجح الذي أسسه مع رفيق دربه د. التيجاني الكارب.
أعاد فرز أوراقه، والنظر إلى الورق على المائدة كلاعب محترف، فأسس مع آخرين المرصد السوداني لحقوق الإنسان، الذي أغلقته الحكومة السودانية في عام 2014.
في مسيرته الطويلة المنهكة، عمل أمين مكي مدني إلى جانب حقوق الكثير من الشعوب، في فلسطين والعراق ولبنان، حيث لا يزال أهل تلك البلاد يكنون له الإعزاز والإحترام..
قضى وقتاً من عمره أستاذاً جامعياً في كلية الحقوق بجامعة الخرطوم، ومستشارا قانونيا للممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، ووزيراً للإسكان بحكومة الإنتفاضة
مسيرة مهنية كان وسمها النجاح، وإحترام الكل.
المحارب الشجاع إنتقل عن الدنيا عن عمر يناهز الـ 76 عاماً بعد أن أنهكه مرض الكلى، وبعد أن منعته الدولة من السفر لتلقي العلاج، وبعد أن تم إعتقاله للمرة الأخيرة إعتقالاً طويلاً في 2015 ومواجهته بتهم تصل أحكامها إلى الإعدام..
أزاح الله عن كتفي أمين مكي عبء الحياة الثقيل نهار الجمعة 31 أغسطس 2018، لنغلق صفحة مجيدة من العطاء الباذخ، والعناد والرحمة.. ولنواجه –إثر فقده- صفحة جديدة، نكون فيها وحدنا، دون أمين، ودون قلب أمين، عقل أمين، وبسمته..
رحمه الله رحمة واسعه، وأنزل السلام على روحه الحنون، وطيب مثواه..
أقول هذا ويقيني أن الموت حق، وأنه سيرة الأولين والآخرين.. غير مستكثر على الله أحدا.. آملاً من الجواد الرحيم أن يمن بالصبر على بناته وأبنائه، سماح وسارة ومكي ومعتز ووليد، ورفيقة دربه السيدة نعمات عبدالسلام..
سائلاً الله أن يجدوا العزاء كله في سيرته الطيبة وسنوات جواره اللطيف..
اللهم أحسن مرقده فقد كان أميناً على حقوقنا وأحلامنا، و إنا لفراقه لمحزونون..
والحمد لله رب العالمين..

التعليقات مغلقة.

error: