في خمسة أشهر أو أقل من ذلك، وقَعَتْ جرائم شاذَّة وغريبة، وغير مسبوقة في المُجتمع السوداني.
المحاكم ما تزال تنظر في قضية الطبيبة، التي قامت بقتل والدة زوجها وسرقة مالٍ كان بحوزة القتيلة. ذلك ما ورد في يوميَّات التحرِّي.
ما تزال جريمة المُسلَّمية حاضرة وغامضة: ابن مُتَّهمٍ بقتلِ أربعةٍ من أفراد أُسرته بدافع السرقة لشراء مُخدِّرات!
زوج وزوجة في الخرطوم بحري، قُتِلا مساء جمعة رمضانية في العشر الأواخر، ما قبل مُنتصف الليل، وإلى الآن لم تستطع الشرطة معرفة هويَّة القاتل!
مجموعة ليبية تقتل ثلاثة أشخاص، وتقطع أوصالهم، ليس انتقاماً لشرفٍ أو أخذاً لثأر أو عملية إرهابية، ولكن بغرض سرقة مبلغ لم يتجاوز العشرين ألف دولار!
الشرطة تقتل شابَّاً في مكانٍ عامٍّ لارتكابه أفعالاً لا تتجاوز عقوباتها الجلد والغرامة والسجن المُخفَّف!
ابن يقتل عمَّه جهاراً نهاراً بأم درمان بغرض السرقة!
المُلفِتُ للنَّظر، والمُثير للقلق، والجالب للحيرة، أن هذه الجرائم وقعت في فترة زمنية مُتقاربة جدَّاً، بدوافع شبه مُتطابقة (السرقة والمُخدِّرات) ومعظمها داخل النطاق الأُسري.
-2-
جرائم القتل قديمةٌ منذ زمن سحيق، وتقع في مُختلف الدول والمناطق، وفي كُلِّ الأزمنة، لأسبابٍ مُتعدِّدَة ومُختلفة.
وفي السودان، سجلَّات التحقيقات الجنائية، وملفَّات القضاء مُكتنزة بآلاف جرائم القتل، وتُلازمها آلاف الدَّوافع والمُبرِّرات.
كُلُّ ذلك عاديٌّ وطبيعي، لكنَّ الجرائم الأخيرة شهدت تغيُّراً نوعيَّاً في جرائم القتل وطُرُقِ التَّنفيذ.
لا نتحدَّث عن الزيادة الأُفقيَّة والعدديَّة، ولكن عن تغيُّر طبيعة الجرائم، حيث تبدو بشعةً وشديدةَ القسوة، لا سيَّما أنها مُتجاوزةٌ لحدود الدوافع المذكورة.
إذا نظرنا إلى شكل وطريقة تنفيذ الجرائم، نجدها لا تتناسبُ مع الدوافع التي تُعلِنُ الشرطة عنها في مضابط التحرِّي!
إذا أراد شاب المُسلَّمية سرقة مالٍ من أهله لشراء مُخدِّرات، فما الذي يدفعه لقتل أربعةٍ من ذويه الأقربين وحرقهم بالغاز؟
إذا أرادت المجموعة الليبية سرقة 17 ألف دولار؛ فما الذي يجعلهم يقتلون ثلاثة أشخاصٍ ويقطعون جثثهم بمنشار كهربائي؟!
في جريمة بحري، وهي غريبة من حيث التوقيت والدافع.. جريمة قتل من أجل السرقة في رمضان، وقبل مُنتصف الليل!
إذا أراد لصٌّ أو أكثر سرقة سيارة عادية، فمثيلاتها بالآلاف تجوب شوارع الخرطوم، فما الذي يضطرُّه للمجازفة في هذا التوقيت وقتل الرجل وزوجته بعدَّة طعنات؟!
حسب معرفتنا القانونية – غير المُتخصِّصة – فكثيرٌ من الجرائم يتمُّ التعرُّف على دوافعها من طريقة تنفيذها، وذلك يقود إلى تحديد قائمة المُتَّهمين.
-4-
لماذا كُلُّ هذه القسوة والإسراف في القتل؟ ولماذا يُوجد فارقٌ منطقيٌّ بين شكل الجريمة ودوافعها؟!
ماذا هناك؟!
القضيَّة لا علاقة لها بعمل الشرطة ودور المؤسسات العقابية؛ فهي أكبر من ذلك بكثير.
ما يُقال عن مُبرِّرات لشرح هذه الظاهرة الجديدة، يكاد يكون سطحيَّاً وكسولاً.. كثيرون يختزلون الأمر اختزالاً مُخِلّاً في الضائقة الاقتصادية وانتشار المُخدِّرات.
الأمر أعمق من ذلك وأكثر.
-5-
من الواضح أن هناك تحوُّلاتٍ اجتماعية كبيرة، في بنية المُجتمع وقاعدته القيمية.
الأرض من تحتنا تتحرَّك وتتغيَّر، ولا يُوجد مقياس ريختر اجتماعي يرصد.
المُنظَّمات الاجتماعية شعاراتٌ برَّاقةٌ بلا مُحتوىً ولا عمل.
الوزارات الاجتماعية تتحرَّك في نطاق المُمكن والمُتاح، في حل المشكلات التقليدية، فتفشل في ذلك وتخيب.
الأحزاب بلا برامج اجتماعية، مطاحن للكلام ومحال لبيع السراب في مدن العطاشى والمحرومين.
حوائط الأُسر تتصدَّع.
المفاهيم تتبدَّل، والأعراف تذبل، الرَّان على القلوب، الصحراء تزحف على وجداننا، والأرواح تشحب وتضمر.
-أخيراً-
إذا لم ننتبه لكُلِّ ذلك اليوم سنندم على غفلتنا غداً.
التعليقات مغلقة.