باج نيوز
موقع إخباري - أخبار اراء تحليلات تحقيقات بكل شفافية
Baraka Ins 1135*120

عبد اللطيف البوني: عزاء في الحاج يوسف

1٬406

(1)
لم يكن من شطار الفصل لأن اهتمامه بالدروس كان متدنيا، ولم يكن لاعبا مميزا لكرة القدم فشكله الكاركتيري لايساعده على الجري، ومع ذلك كان تلميذا مشهورا على نطاق المدرسة فقد كان نجما من نجوم ليالي السمر، فعندما يصعد على خشبة  مسرح المدرسة يستقبله الحضور بالتصفيق والضحك رغم الألحان التي كان يصدح بها محدودة والنكات التي كان  يطلقها محفوظة للجميع إذ يطالبونه باللحن الفلاني والنكتة الفلانية كل هذا لأن لديه طريقة اداء جاذبة.
(2)
الأمر الذي استغرب له الآن هو إننا كنا نصنفه بما فينا المدرسين كمنولجيست مع إنه كان يردد أغانيا ولعل السبب في ذلك أن أغانيه لم تكن معروفة لدينا مثل (ياما بقيت حيران يا ما فشل ظني ** كل الحصل ياحبيب والله ما مني) وأثناء الآداء كان يتمايل ويحرك يديه مما أعطى حضوره المسرحي قيمة إضافية ثم يعرج (وسط الزهور متصور وجهو الصبوخ ومنور| رقة وحنان كاسيه ذي القمر متدور) ومع كلمة متدور كان يقوم بعملية استدارة كاملة ونحن نضحك ونصفق ونطالبه باعادة المشهد. لا أدري لماذا كنا نظن تلك الأغاني منلوجات ؟ أغلب الظن هو الآداء هو الذي حول تلك الأغاني العاطفية الي منلوج فمثلا عندما يردد: ياما بقيت حيران كان يضع كلتا كفيه على رأسه أو يضع إصبعه على صدغه ليصور الحيرة
(3)

بما إننا في فصل واحد سألته ذات يوم (يا مختار إنت بتجيب المنلوجات دي من وين؟) فأجابني (يا أخي دي ما منلوجات دي أغاني في فنان ظهر جديد اسمه زيدان ابراهيم سمعته في راديو خالي عثمان صوته جميل جدا قاعد يغني الأغاني دي طوالي حفظتها) (ياخي انت عمرك كله ما حفظت ليك سورة ولانشيدة وكل يوم جالدنك معقولة تحفظ من الراديو؟) (اي والله ياخي فنان صوته أجمل من وردي ومن إبراهيم عوض) (مختار ياخي يوم واحد ما سمعنا بفنان اسمه زيدان، راديو خالك شغال براه ولا كيف؟) (ياخي انت عارف كويس إني أنا زول بليد وطيش الفصل معقولة بس اقطع كلام ذي دا من رأسي) (قلت زيدان منو؟) (زيدان ابراهيم)
(4)
افترقنا بعد المرحلة الاولية ترك مختار الدراسة وذهب الي سبيل حاله ونحن في المرحلة الثانوية ظهرت أغان مثل (قصر الشوق وانهد/ نقول  ياربي ايه جد/ تمر أيام وتتعدى/ ونقعد نحسب في المدة) و(في الليلة ديك لا هان على أرضى وأسامحك ولاهان على أعتب عليك) فملأت الدنيا وشغلت الناس وعرفتنا بالفنان الكبير زيدان إبراهيم لابل رجعنا لأغانيه القديمة (ياما بقيت حيران) و(وسط الزهور متصور) وطربنا لها من جديد  وعندما شاهدناه في التلفزيون بقوامه الفارع و(خدرته الدقاقة) وشعره (الخنفس) وطريقة أدائه (تثبيت الأرجل وتحريك بقية الجسم بهزة تشبه القشعريرة) تعلقنا به أكثر وعندما جئنا للعاصمة للدراسة الجامعية كنا نبحث عن استاد الهلال والمسرح القومي وابراهيم عوض وزيدان ابراهيم وعشنا ثنائيته مع أبوعركي كأروع ما تكون الثنائيات تلك الثنائية التي أعقبت ثنائية ود البادية وحمد الريح والتي أعقبت ثنائية وردي وعتمان حسين وفيما بعد عاد وردي ليثني ود اللمين. لقد أصبح زيدان رقما في خارطة الأغنية السودانية.
(5)
ما زلت محتارا كيف لمختار وهو بتلك القدرات المتواضعة في تقديرنا ان يكتشف عبقرية زيدان. لقد تأكد لي ان أي إنسان فيه قدرات كامنة ليس بالضرورة أن نخضعها لمقاييسنا المتعارف عليها. كنت ومازلت كلما أقابل مختار اقوله والله يا مختار كنت أكبر مننا بكثير بدليل إنك اكتشفت روعة زيدان قبلنا بعشرة سنين على الأقل وكنت كلما أقابله نستذكر الماضي ونطوف على آخر تجديدات زيدان (غرام الروح) و(في بعدك ياغالي) و(داوي ناري واشتياقي) و… و…وكل درر زيدان .عندما اغتربت في جنوب المملكة العربية السعودية كان هو في شمالها كنا نتحادث عبر الهاتف وموضوعنا الاساسي كان زيدان (بالله شفت زيدان عمل كيف في أغنية بيني وبينك والأيام؟ والله لو كنت مكان وردي كنت خليتها ليهو) (ياخي ما في طريقة تكلم زولك إبراهيم عوض وتقول ليهو مفروض تخلي أغنية ياخائن لزيدان إبراهيم ) (قالوا زيدان عمل حفلة في القضارف وقفها على كراع واحدة).
(5)
لم تستمر غربتي طويلا فعدت للبلاد بعد سنوات قليلة فانقطع الاتصال بيننا تذكرته يوم وفاة زيدان وبحثت له عن عنوان لكي أعزيه وأعزي نفسي معه فلم أوفق  علمت أنه عاد للبلاد نهائيا وكان موفقا جدا في اغترابه واستقر في ضاحية الحاج يوسف. قبل عدة أيام ذهبت لعزاء هناك ولم يكن في بالي أبدا أن ألتقيه ولكن لدهشتي ما إن دلفت إلى صيوان العزاء وبعد الفاتحة حتى أبصرته جالس في ركن من أركان الصيوان إذ بدا لي أنه جار لاهل العزاء فانتابني شعور غريب شعرت برجفة. خفت لقائه فتحاشيته وبعد أن خرجت من صيوان العزاء سألت عن بيته وقد وجدته قريبا جدا فطرقت الباب ووجدت شابا من الشبه عرفت أنه ابنه فقلت له نادي لي أبوك من الصيوان ودلفت الي الداخل وجاء مختار مسرعا وما إن رآني حتى احتضنني وانفجرنا باكيين بكاء مرا والتفت حولنا أسرته الصغيرة مستغربة  ومندهشة لهذا المشهد وبعد أن أفرغنا من الدموع ما شاء لنا أن نفرغه واستغفرنا الله إلتفت إلى أسرته وقال لهم دا عمكم فلان فتنفسوا الصعداء إذ علموا سبب البكاء (ياخي العبرة كانت خانقاني السنين دي كلها).

التعليقات مغلقة.

error: