مدى الفاتح يكتب: بريطانيا في مجلس الأمن بشأن السودان
أنتجت المأساة الإنسانية الحادثة في السودان حالياً، والتي لم يكد ينجو من آثارها أحد، وعياً سياسياً جديداً لدى شرائح واسعة لم تكن تهتم بالشأن المحلي العام، ناهيك عن الوضع الدولي. أدرك أولئك أن الإجابة، التي يبحثون عنها بشأن نهاية هذه الحرب لا تتعلّق فقط باللاعبين المحليين، ولكن بمخطّطين دوليين أيضاً، كما أدركوا، منذ الأسابيع الأولى، أن ما قام به محمد حمدان دقلو (حميدتي) لم يكن مجرّد ردّ فعلٍ عفويٍّ على مساعي الانقلاب عليه، كما كانت دعايته تردّد، بل أنه كان عملاً مدروساً بدقة ومتابَعاً من جهات كانت ترى في تصدّره المشهد مع مجموعة من السياسيين “المقبولين” مصلحة لها.
بالرغم من المعاناة والرغبة الملحّة في العودة إلى الحياة الطبيعة، فإن العنوان الإنساني لمشروع القرار البريطاني، الذي طُرح للتصويت في مجلس الأمن الاثنين الماضي، وتعلق بالوقف الفوري لما سماها “الأعمال العدائية” من جهة و”حماية المدنيين” من جهة أخرى، لم ينجح في خداع الشعب السوداني.
بالنسبة للنخبة المقرّبة من الغرب، والتي سعت إلى التبشير المسبق بالقرار، وبمحاولة إقناع الجماهير بأن إيقاف الكارثة غير ممكن ما لم يجر القبول بتدخل دولي، فقد كان إفشال القرار البريطاني مُحبطاً. زاد ذلك الإحباط بعدما ظهر من فرحة بالفيتو الروسي.
أظهر العامة، الذين تراهم النخبة المتغرّبة مجموعة من الجهلة أو القاصرين، الذين لا يعرفون مصلحتهم، وعياً كبيراً برفض الرهان على الرؤية الغربية. ولا يحتاج المرء أن يكون خبيراً في العلاقات الدولية أو متخصّصاً في شؤون مجلس الأمن حتى يدرك أن حماس أيٍّ من دول المركز لا يمكنه أن ينبع من مجرّد الإشفاق على المواطنين.
من المهم التذكير أن بريطانيا، المتحمّسة لوضع خطة من أجل وقف الحرب في السودان كما تردّد، ليست مجرّد مراقب أو مهتم محايد، بل هي فاعل في الحدث السياسي السوداني منذ تحقيق تنحية الرئيس عمر البشير في 2019. لا يُنسى هنا كيف كان دور السفير البريطاني محورياً في النسخة الأولى من الفترة الانتقالية، إبّان سيطرة “قوى الحرية والتغيير” على مقاليد الحكم، إلى درجة أنه كان يسمّى تندراً وقتها بالحاكم العام. هذا الفاعل، بكل الأدوار، التي ظهر بها وكل الدعم والتخطيط، الذي ظلّ يقدّمه لمجموعاتٍ سياسيةٍ بعينها، منذ اعتصام القيادة، لا يمكن لعاقل أن يُنكر أن لديه مصالح يسعى إلى تحقيقها، أو أن يقول ببساطة أن ما يحرّكه مجرد الرغبة في إنهاء المأساة.
مقترح التدخّل لحماية الشعب السوداني ومساعدته لم تطرحه بريطانيا بعد اندلاع الحرب أول مرّة، بل بدأ طرحها بمجرد ولادة حكومة عبد الله حمدوك، الذي روهن عليه شخصيّة حليفة وصديقة في بلد مليء بمن ينظرون إلى الأدوار الغربية بتشكّك وحذر. آنذاك، كان المطلوب أن تطلب حكومة حمدوك تدخّل المجتمع الدولي من أجل استكمال المطلوبات السياسية والفنية والقانونية والأمنية للانتقال، وهو ما قامت به تلك الحكومة فعلاً عبر خطاب رسمي فريد من نوعه موجّه إلى الأمم المتحدة لم يجر سحبه، إلا بعد أن تسبّب محتواه المتسرّب في صدمةٍ لدى الرأي العام، الذي رأى فيه دعوة صريحة إلى إعادة احتلال السودان.
بريطانيا، المستعمر السابق، واللاعب الأصيل في معترك السياسة السودانية، تشارك حلفاءها السياسيين المحليين في نظرتهم المعادية إلى المؤسسة العسكرية. الطرفان، بريطانيا وحلفاؤها، يتهمون الجيش بإفشال مشروعهما السياسي، ما يجعلهما يظهران بمظهر المتواطئ المقرّب من قادة “الدعم السريع”. يتفق الطرفان كذلك على أن في استنزاف الجيش وإضعافه مصلحة، لكن الأخطر أنهما يريان أن مساعيهما وطموحاتهما السياسية قد تتحقّق في حال انتصار حميدتي.
يمكن أن يقول قائل إن بين القوى الدولية من يمكنه أن يكون مهتماً للشأن الإنساني بلا أغراض. المشكلة هنا أن سلوك دولة الاحتلال الإسرائيلي لم يترك مجالاً لأحد لكي يُحسن الظن في “العدالة الدولية”. الدول، التي تستأسد اليوم على الجيش السوداني، وتسعى إلى وصمه ومساواته مع المليشيا بحجّة سقوط مدنيين في أثناء القصف، نفسها تردّد أن من حقّ جيش الاحتلال أن يستخدم كل ما يراه مناسباً من أجل ضمان أمنه، وهي نفسها، التي ترفض توجيه أي نوعٍ من الإدانة له أو حتى ممارسة بعض ضغوط عليه. هذا الازدواج الفج في المعايير، الذي لم يعد من الممكن إنكاره أو التستّر عليه، وتسبب في توسع تيار التشكيك بشرعية المؤسّسات الدولية، حتى في دول الغرب، هو ما تسبّب في هذه النظرة الشعبية السلبية لجميع المبادرات، التي تقف وراءها الدول التي تحتكر التحدّث باسم “المجتمع الدولي”.
ليست تجربة القوات الأممية جديدة في السودان، فإثر ضغوط سابقة، وتحت مسوّغات من بينها انتشار العنف المسلح في إقليم دارفور، جرى القبول بانتشار قوات دولية تابعة للأمم المتحدة من أجل العمل على وقف الانتهاكات وحماية المدنيين. ما حدث أن هذه القوات (يوناميد) لم تنجح في وقف العنف ولا حتى في حماية نفسها، بل كان وجودها سلبياً من نواحٍ كثيرة، ليس من بينها بطبيعة الحال ناحية أفراد القوة وموظفيها، الذين كانوا يتمتّعون بحصانات وامتيازات ورواتب عالية.
أي تأسيس لحل الأزمة السودانية وإيقاف الحرب ينبني على المساواة بين الجيش وعصابات “الجنجويد”، أو يهدف إلى إجبار القيادة السياسية على إعادة استيعاب هذه المجموعات، التي ظهر إجرامها للمراقبين وللمنظمات المحلية والدولية ذات المصداقية، لن يكون مقبولاً. وإذا كان هناك من هو صادقٌ في العمل على حماية المدنيين، فعليه أن يبدأ بإيقاف مصادر تمويل المليشيا ومعاقبة المتورّطين بتوفير المال والسلاح لها.
نقلاً عن العربي الجديد
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.