الصديق النعيم موسى يكتب: أيام في الحرب ( 2 )
في ليلة اليوم الثاني للحرب وأصوات الرصاص المتواصل بلغني خبراً حزيناً بتعرّض الأخ العزيز ملازم أول عمر محمد الحسن لإصابة الغدر من قِبل المليشيات ، وقتها لم أستطع النوم وحزن مُفارقة الصِحاب ، أراجع دفتر رسائلي مع عمر الذي إستشهد في خواتيم الشهر الكريم . في الصباح الباكر تواصلت الإشتباكات مع صمود قواتنا المُسلّحة التي ظلّت في حالة دفاع ( لإستنزاف العدو وقد أفلحت في ذلك ) أصبحنا في يومٍ غير الذي نذهب فيه للعمل ، يومٍ تحشد في المليشيات أعداداً كبيرةً جداً تُهرول داخل الأحياء عبر سيارات الدفع الرُباعي يُساندها في ذلك إعلام الضلال والمرتزقة من تشاد ومالي والنيجر وأنا أتابع بالمنطقة التي أسكن بها التحرك الكثيف ، أحد الجنود أدخل عربة تحمل الدوشكا والأربجي تحت الشجر ( مُلطّخة بالطين ) حتى لا تُعرف بواسطة الطيران ؛ رأيت الخوف في عينيه وهو ينظر لي من بعيد .
وفي نهار اليوم الثاني صعدنا وبرفقتي بعض الأصحاب إلى سطح المبنى وأنا أصوّر الطيران الحربي يُطلق القذائف الصاروخية على أهداف المتمردين ، هي حرب حيّة ليست كألتي في هوليود ، بلا مونتاجٍ أو فبركات ، معركة نال شرفها جنود وضباط الجيش الأوفياء الذين سطّروا ملحمة تأريخية ضد مليشياتٍ مدعومة من دويلة الشر ، ومرتزقة أجانب وإعلامٌ ضلالي يُمارس الكذب والنفاق ، أصبحت قناتي العربية والحدث هي الذراع الإعلامي الذي يبُث الأكاذيب .
إشتعلت المعركة والجميع صيام وأغلبنا لم يتسحّر ؛ قبل الظهر رأينا جنود الدعم السريع يهرولون أمامنا يحملون الأربجي في مظهر إنهزام واضح يخافون من الطيران الحربي الذي أدخل في نفوسهم الرعب وما إن سمعوا صوتها هربوا من السيارات ( لأنَّ أغلبهم لا يعلم الإستخدام الجيد للمضادات الأرضية ) غارات جوية مُفاجأة دمّرت وقتلت أعدادٍ ضخمةً جداً سارعوا على إثرها دخول المستشفى بصورة تُفسّر عدم مقدرتهم على مواجهة الجيش السوداني الذي صمد أمام حشدٍ كبير ، الجُثث تنتشر في الطُرقات والإصابات مُخيفة .
يومٌ دامي في نهار رمضان و بعد أن أقمنا صلاة الظُهر ، تساءلنا عن تجهيز الفطور والعشاء كما الأمس مع مُراعاة الطريق والخروج بالسيارة ، ذهبنا للسوق الذي شهد موجة غير مسبوقة والإقبال على المخابز وأعداد ضخمة جداً من المواطنين والمواطنات تصطف ( قلت لنفسي أنَّ صاحب المخبز يعلم تماماً أنَّ وصول الدقيق بصورة متوالية كما كان لن يحدث مُجدداً نسبة لظروف البلاد وسلوك المليشيات الغاشم الذي يعتدي على أموال الناس والمصانع والبنوك ) هذا اليوم يختلف كثيراً عن اليوم الأول للحرب ، في سبيل الحصول على الخبز كانت مُعاناتنا لا تُوصف تجوّلنا لأكثر من خمسة عشر مخبزاً في منطقتنا بعضها توقّف والآخر ، يحتاج لساعتين حتى يدخل للنار ، عُدنا مُجدداً لأول مخبزٍ وإنتظرنا ساعة ونصف أو يزيد حتى حصلنا عليه ، ثم أخذنا ما نحتاجه للعشاء وعُدنا وتبقى القليل للإفطار ، ما لفت نظري على يمين الطريق وجود مقذوف كبير ونحن نتبع الطرق الداخلية للحي حتى عُدنا أدراجنا .
فطرنا على الفول وجنودنا بالقرب منا يفطرون على الزناد والمدافع الثقيلة والخفيفة ، في تلك الأثناء ونحن نتناول ( الآبري ) إتصل عليّ صديقي الذي ذهب قبل الحرب بساعتين فقط يقول لي : ( يا زول أمرقو وإتخارجو وتعالو أهلكم تاني أكل ما بتلمو فيهو ) ولقد صدق في ما قاله في اليوم الثاني والمنطقة كلها تنتظر الخبز في المخابز لساعاتٍ طويله .
الموت طبيعي في مثل هذه الأوقات ومتوقّع تحت أي لحظة ، حيث كثافة نيران التمرد خاصةً العشوائيه وإلاّ ما سمعوا صوت طائرة وأطلقوا عليها المُضادات الأرضية ، وجودنا في هذه المنطقة أصبح يُمثّل تهديداً علينا وعلى حياتنا ، المدافع والدانات تهتز معها الغرفة ونحن نتسامر حديث الليل وندعو الله أن يخزي التمرد وأن ينصر الجيش .
فقد التمرد في اليوم الثاني وبجوارنا فقط العشرات وإصابات خطيرة ومتفاوتة ما أحزنني ( صغر أعمارهم تم خداعهم بالمال لمُقاتلة جيشٌ مُتمرّس خاض المعارك وخَبر الفنون ودرس الإستراتيجيات نظرياً وعملياً هم مُغرر بهم ، أطفالاً لم يبلغو الحُلم بعد وما دون الثامنة عشر لا حصر لهم موت بالجملة وإصابات يعجز المستشفى عن علاجها ، والدماء تسيل على مركباتهم وسيارات الإسعاف وسراميك المستشفى ، لحظات مُرعبة جداً ، إنسحبت تدرجياً من أمام الباب الذي يطِلُ على المستشفى وعدت فرحاً بأنَّ قواتنا المسلّحة أضربت وأوجعت ودمّرت .
ومع حلول الليل وقعت ثلاث أو أربع دانات أفزعت كل من في الغرفة صديقي يمازحني ( يا زول الشغلانه دي ما يكون هنا ) نظرنا إلى الساعة كانت تشير إلى الثانية والنصف صباحاً ، إتصالات متواصلة من الأهل والأصدقاء للعودة إلى الديار ومُغادرة الخرطوم .
صوت أخير :
الجثث المُتفحّمة السيارات المحروقة ، الثنائي والرباعي والدوشكات مدمّرة تدميراً كاملاً وأُخريات ذخيرتها ملقية على الأرض مُشتتة جراء الضربات القوية ؛ هول المنظر يُفجع القلوب وبرغم ما ذكرت إلاّ أنَّ هنالك بعض المواطنين جاءوا لمشاهدة الجثث المتفحّمة بعد إنقضاء الضربات الجوية .
في السلسلة القادمة نتناول ضرب المليشيات للكهرباء وإنقطاع المياه وضرب الجيش لمدرعات التمرد أمامنا مباشرةً .
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.