أمجد فريد الطيب يكتب: السودان… الطريق إلى إنهاء الحرب
*يستمر الطرفان في الاقتتال فوق رؤوس السودانيين، بعد أن دمروا معظم العاصمة الخرطوم وشردوا أغلب أهلها. وفي دارفور، بدأ القتال يأخذ منحنى خطيرا، بعد أن اتهم حقوقيون “قوات الدعم السريع” باستهداف بعض الفئات الاجتماعية على أساس إثني، وهو ما وصل إلى ذروته في حادثة اغتيال خميس أبكر، والي ولاية غرب دارفور، بعد ساعات قليلة من اعتقاله بواسطة عناصر “الدعم السريع”، ولاحقا اغتيال والده الشيخ عبدالله أبكر، على يد العناصر نفسها، في 15 و22 يونيو/حزيران على التوالي، وذلك وسط حملة استهداف كبيرة شملت عددا من رموز قبيلة المساليت في دارفور، وراح ضحيتها أيضا الأمير طارق عبدالرحمن بحر الدين، شقيق سلطان دار مساليت، وأفراد آخرون من أسرته، ومنسق العمل الإنساني في الولاية الصادق محمد أحمد، وهو محامٍ بارز معروف بجهوده التطوعية في الدفاع عن حقوق الإنسان، وآخرها تطوعه لمتابعة قضايا المتأثرين بالعنف الأهلي في المنطقة خلال عامي 2019 و2022.
*وهي أحداث تم اتهام الميليشيات الموالية لـ “لدعم السريع” بالتورط فيها على نطاق واسع. وأيضا، تم اغتيال الأستاذ طارق مالك، رئيس المكتب الفرعي للجنة تسيير نقابة المحامين في غرب دارفور. وذلك بالإضافة إلى الهجوم على منازل عدد من الموظفين الحكوميين والأعضاء البارزين في مجتمع المساليت وقتلهم داخل منازلهم.
*وقد نشط الراحل خميس أبكر منذ منتصف التسعينيات في تنظيم صفوف المزارعين، وهي الحرفة التي امتهنها أهله المساليت، في محاولة لحمايتهم من اعتداءات الرعاة الموسمية. وهو الأمر الذي كان أحد جذور اندلاع الحرب في دارفور. تعرض أبكر للاعتقال والتعذيب على يد نظام البشير المخلوع مرات عديدة بسبب ذلك.
*ثم انخرط الراحل في قيادة تنظيم التحالف السوداني بعد بدء الكفاح المسلح في دارفور ليوقّع بعد انتصار ثورة ديسمبر/كانون الأول على اتفاق جوبا للسلام ويتولى منصبه واليا لغرب دارفور نتيجة لذلك. ومنذ اندلاع الحرب الأخيرة وحتى قبل ساعات من مقتله، ظل خميس أبكر يسعى بين الناس في ولايته برسالة أن هذه الحرب هي بين الجيش السوداني و”قوات الدعم السريع”، وأنها ليست بين العرب والمساليت. وأنه لا يجب للفئات الاجتماعية الانخراط فيها بأي شكل من الأشكال موجها انتقاداته الحادة للطرفين، لا سيما الجيش السوداني بسبب فشله في تقديم الحماية والمساعدة للمدنيين، ولـ “قوات الدعم السريع” بسبب انتهاكاتها وتجاوزات أفرادها ضد المواطنين. ولكن كان جنون آلة الحرب والموت والدمار أقوى من إرادة الحياة والسلام التي كان يبشر بها خميس أبكر.
هدن متتالية وخروقات مستمرة
في 22 يونيو/حزيران الماضي أعلنت مساعدة وزيرة الخارجية الأميركية للشؤون الأفريقية، مولي فيي، عن توقف منبر مباحثات جدة بعد أن فشل في إلزام الطرفين عشر مرات بهدن وقف العدائيات التي يتم الاتفاق عليها. وكان لغياب الوجود المدني أثره الواضح في تصميم تلك الهدن، التي اعتبرتها “قوات الدعم السريع” فرصة لوقف القتال مع الجيش، ولكنها واصلت احتلال المنازل والمستشفيات ونهب المدنيين، دون أن يتم اعتبار ذلك خرقا للهدنة، ما داموا لم يصطدموا مع الجيش.
*وقالت السيدة مولي في تصريحها عن توقف منبر جدة، إن صيغة المفاوضات لم تحقق النجاح المرجو منها. وهو الأمر الذي أشار إليه كثيرون منذ بدء التفاوض الذي دفعت نحوه الوساطة الأميركية- السعودية، بناء على النوايا الحسنة للتعجيل بإيقاف الاقتتال بأي طريقة. ولكن ذلك أدى إلى تغذية الطموحات السلطوية لدى الأطراف المتقاتلة، التي سعت إلى محاولة تحقيق الأهداف التي لم تنجح في تحقيقها على الأرض، على مائدة التفاوض.
*وحاولت “قوات الدعم السريع” استغلال منبر جدة كمنصة للعودة للعملية السياسية السابقة للحرب باعتبار أنها كانت تضمن لها وجودها واستقلالها ونفوذها السياسي والاقتصادي إلى حد كبير. وهو ما أدى إلى استمرارها في القتال على أمل تحسين موقفها التفاوضي بالشكل الذي يسمح لها بتحسين شروط عودتها إلى وضعية ما قبل 15 أبريل/نيسان الماضي، بحسب الوعد الضمني لمباحثات جدة.
*أيضا تعامل الجيش مع التفاوض في جدة كمجاملة دبلوماسية للمملكة العربية السعودية، والولايات المتحدة الأميركية. أو ربما لم يكن في يده غير الانخراط في التفاوض على أمل إيقاف القتال في ظل الضعف العسكري الذي أظهرته قواته التي ظلت تتقهقر في ظل عجزها عن حسم الأمر ضد “قوات الدعم السريع” التي كونتها وكانت جزءا عضويا منها حتى قبل سنوات قليلة.
*والشاهد أن مؤسسة الجيش السوداني أثبتت أحوالها خلال هذه الحرب أنها لا تحتاج إلى إصلاح فحسب، بل إلى إعادة بناء وتقويم كاملة.
الجيش في حرب مدن
ثلاثون عاما من حكم الإخوان المسلمين في السودان، واعتمادهم على صناعة الميليشيات الخارجية للقتال في حروبهم الأهلية، منذ قوات الدفاع الشعبي، والقوات الصديقة، والجنجويد الذين تطوروا لاحقا ليصبحوا “قوات الدعم السريع”، قد أضعف القوى المقاتلة الرسمية للجيش السوداني بشكل كبير.
ويظهر ذلك في عجزه عن توفير قوات مشاة لتواجه تلك القوات في حرب المدن. وأيضا فإن تغلغل الإسلاميين في صفوف الجيش، كإحدى مؤسسات الدولة التي سيسوا مفاصلها على مدار سنين حكمهم، أدى الآن إلى تعدد مراكز اتخاذ القرار فيه، بالإضافة إلى انشغال المنظومة العسكرية والأمنية خلال العقود الثلاثة من حكم البشير بحماية النظام بدلا من المحافظة على مهنية وفعالية الجيش.
*وما فعلت الحرب مع قوات الدعم السريع غير أن أظهرت عورة الجيش الذي اجتهد قادته في إخفائها وراء النياشين والبزات العسكرية وخطابات العنجهية والتحالفات غير المبدئية والانقلاب في وجه المدنيين الذين لم يملكوا سوى طروحاتهم ومواقفهم وآرائهم على اختلافها.
*وعلى الصعيد الآخر، أثبتت “قوات الدعم السريع” على نفسها في أيام الاقتتال السبعين الماضية ما ظل معروفا عنها منذ إنشائها، وأنهت أي احتمالات لإمكانية قبول دمجها أو قبولها في سياق جهاز الدولة السوداني الطبيعي في مستقبل آمن أو مستقر للسودان. ووثق حقوقيون انتهاكات وجرائم ارتكبتها عناصر “الدعم السريع”، وسط اتهامات لتلك القوات بأنها “منظومة فاشية”، تقتل وتنهب وتغتصب السودانيين وتدمر بلادهم. وهي بالتأكيد لا تمثل الهامش ولا الفئات المستضعفة في السودان، بل هي نشأت بالأساس كواحدة من أدوات قمع الهامش والتنكيل به، إذ تداول حقوقيون فيديوهات وتسجيلات لعناصر “الدعم السريع” في احتفائهم باحتلال بيوت سكان في الخرطوم.
*هذه العقلية لا تمثل الهامش السوداني في شيء، بل هي العقلية التي ظل سكان الريف السوداني يعانون جراها سنين عددا. والآن مرة أخرى يعاني من انفلات قيد آلة الدمار التي ساهمت في تدميره وقمعه مرة أخرى. وأيضا هذا الخطاب لا يمثل قبائل العرب الرحل في دارفور، والتي أصدر كثير من قياداتها الأهلية مواقف واضحة ضد الحرب وضد “الدعم السريع”.
*هذه المنظومة لا يمكن أن يوجد لها مكان في صناعة أي مستقبل للاستقرار- ناهيك عن الديمقراطية- في السودان.
“العسكر للثكنات، والجنجويد يتحل“
*محاولة أبواق الحرب فرض ثنائية الانحياز لهذا الطرف أو الآخر كحتمية في هذه الحرب هي سردية خاطئة. هذه الحرب كل أطرافها سيئون، وإيقافها يجب أن يحدث بمعاقبتهم كافة.
*لعل توقف مفاوضات جدة، يسمح بالتفكير في إعادة تصميم عملية سلمية على أسس سليمة تتبنى الوصول إلى هدف إيقاف الحرب بشكل أكثر فاعلية. رفع السودانيون في ثورتهم شعارا فصيحا فيما يتعلق بمسألة تعدد المراكز العسكرية في البلاد (العسكر للثكنات، والجنجويد يتحل)، وهذا الشعار هو المدخل الصحيح للسلام في السودان.
*لا يمكن تصميم عملية سياسية دون تحديد الأهداف التي تريد الوصول إليها. وشعار الثورة هو الهدف الصحيح الذي ينبغي أن ينبني عليه تصميم العملية السياسية. ودخول الحرب بدمارها إلى شهرها الثالث، أثبت أنه لا مجال للحسم العسكري، وهذا أمر سيكون الطرفان من الغباء بمكان إذا لم يدركوه حتى الآن.
*فالجيش السوداني عجز عن حسم المعركة أو الانتصار على “الدعم السريع” حتى الآن، وكذلك لا يوجد أي سيناريو واقعي يمكن فيه لـ “قوات الدعم السريع” الانتصار والسيطرة على السودان وحكمه، حتى إذا دمرت الخرطوم. فهذا البلد أكبر بكثير من قوات آل دقلو وتابعيهم.
*وكلما أسرع الطرفان في تلمس هذه الحقيقة وإدراكها كان أفضل للسودانيين ووطنهم بدلا من استمرار دوامة الدمار هذه. ولا يوجد سيناريو منطقي يمكن فيه لـ “قوات الدعم السريع” العودة لتصبح جزءا من الممارسة السياسية الطبيعية في البلاد. لقد أغلقت ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 باب الخضوع للسلاح في السياسة السودانية إلى الأبد، هذا الشعب لن يقبل أن يعود إلى الوراء رغم الردة التي أصابت بعض ساسة الاتفاق الإطاري.
*العلاج المر لهذه الحرب المدمرة يتطلب القبول بأي تضحيات أو تنازلات لوقف الاقتتال وقتل السودانيين ودمار بلادهم. هنا يصبح طرح خروج آمن من البلاد لقائد “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو ونائبه والذي هو شقيقه عبدالرحيم، بالإضافة إلى عصبتهم المقربة في قيادة “الدعم السريع”، مقابل وقف الاقتتال والدمار المستمر في السودان مصحوبا مع حل “الدعم السريع” وتسريح جنودها والعمل على إدماجهم في مجتمعاتهم بشكل طبيعي.
*انتفاء وجود “الدعم السريع” كمؤسسة ينبغي أن يصاحبه على التوازي الشروع في عملية إصلاح شاملة في مؤسسة الجيش السوداني، والمدخل الأول لها هو إخراج جرثومة التسييس منه. وينبغي على قيادة الجيش إخراج كافة الضباط المسيسين وعلى الأخص الإسلاميين الذين عملوا على إشعال فتيل هذه الحرب من صفوفهم.
*هذه هي الخطوة الأولى من أجل استعادة الجيش لدوره الطبيعي ثم العمل على تطويره وتحديد عقيدته القتالية ودوره الوطني الذي يستطيع لعبه بشكل طبيعي خارج مجال السياسة والاقتصاد وإدارة شؤون الدولة وكل الملفات التي انشغل بها الجيش وقادته وأهملوا واجبهم الأساسي حتى أصبح بهذا الشكل المهلهل الذي نراه الآن.
*وبعد ذلك، على القوى المدنية السياسية ذات المصلحة الحقيقية في مستقبل السودان الشروع في حوار وطني شامل يضم للاتفاق على مشروع وطني لبناء الوطن وإعادة تأسيس الديمقراطية في فترة انتقالية تستلهم مضامين وأهداف ثورة ديسمبر. وهنا على هذه القوى أن تتواضع وأن تتذكر أن أحد أسباب التوتر السياسي الذي سبق الحرب كان محاولة بعضهم (أشخاصا وتنظيمات) احتكار الثورة السودانية والدولة السودانية، وجعلها أسيرة لتصوراتهم وطموحاتهم الذاتية. ولم يعنِهم في ذلك ارتكاب كل الموبقات السياسية الخاصة والعامة.
*لقد تأخر هذا الحل ويجعل حبل المحاكمات والملاحقة الدولية بخصوص جرائم الحرب والانتهاكات التي يتم ارتكابها باستمرار يلتف أكثر وأكثر حول أعناق مرتكبيها. وكما أن استمرار الحرب يستمر في كشف حال الجيش المتضعضع، ويضغط على جهاز الدولة الخدمي والذي هو على هشاشته لا يزال يستمر في تقديم بعض الخدمات الضرورية والأساسية للمواطنين العالقين في جحيم الحرب في السودان حتى الآن.
*هذا المقترح أشبه بالدواء المر. وهو بالتأكيد، إذا تبنته القوى الدولية والإقليمية الفاعلة والتي لها تأثير على الطرفين يمكنها إجبارهم على القبول به، فهو يظل عطاء من لا يملك لمن لا يستحق. ولكنه محاولة لفداء المستقبل وما تبقى من البلاد قبل أن يبتلعها الحريق. إن فداء حياة سودانية واحدة من أن تضيع عبثا في أتون هذه الحرب المجنونة، هو أهم وأسمى من أي شيء آخر.
نقلاً عن المجلة
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.