عصام شعبان يكتب: سدّ النهضة مصريّاً بين التكيّف وكسب التأييد
*تبدو استراتيجية مصر في مواجهة أزمة سدّ النهضة في اتجاهين أساسيين. يتمثل الأول في التكيف مع آثار بناء السد لجهة نقصان كميّات المياه، وما يترتّب عليه من نتائج وتهديد بالإجهاد المائي، وما يستوجب ذلك من خطواتٍ لتخفيف الضرر، منها مشروعات لسدّ عجز المياه. وثانيا بذل الجهد في إطار كسب التأييد لحقوق مصر المائية، من أجل الوصول إلى اتفاق ملزم، يضمن ألا تتهدّد المصالح المائية بدرجة أكبر، وأن يبقى في حدود يمكن تحمّلها، هذا وإن كان تخزين المياه في بحيرة السدّ (تستوعب 74 مليار متر مكعب، يمثل مجموع حصتي دولتي المصبّ)، يمثل انتقاصا لحقوق مصر المائية، حتى مع الوصول إلى اتفاقٍ ملزم.
*ويدفع نقص المياه إلى التوسّع في مشروعات تحلية مياه البحر ومعالجة الصرف الصحّي، وتأهيل الترع، لمعالجة الفجوة المائية في ظل عدم كفاية حصّة مصر من مياه النيل (55 مليارا)، بينما يزيد عدد السكان عن مائة مليون، بما يرفع الاحتياجات إلى الضعف، ما يجعل آثار سد النهضة قاسية ومعطّلة لمخططات التنمية. ومستقبلا، سيكون السد بمثابة تكبيل وتقييد في ظل توقعات باحتياجات متزايدة من المياه لن تكفيها برامج التكيف لمحدودية آثارها .
*وما بين هذين الاتجاهين، التكيّف وكسب التأييد، يظل سيناريو المواجهة وأدواتها يلعب دورا وظيفيا من أجل الضغط لتنفيذ عملية التكيّف، والتي تستدعي تمويلا ضخما تسعى مصر إلى توفيره مع شركاء دوليين، اتصالا بقضيتي التغير المناخي والاستقرار. كما يعدّ التلويح بالقوة والنفوذ الجيوسياسي إشارة ذات أهمية لكسب التأييد، وعقد اتفاقٍ يضمن مشاركة دولتي المصبّ في عمليات الملء السنوي وربما التشغيل.
*وفي المطالعة قراءة في الاتجاهين، التكيّف وكسب التأييد، وخطوات القاهرة التي تلت الملء الثالث لسدّ النهضة (12 أغسطس/ آب 2021)، وتمظهر الأزمة على المستوى الدبلوماسي، وتتضمّن أبرز المحطّات التي طرح فيها ملف سدّ النهضة، ولا سيما قبل انعقاد مؤتمر المناخ وما جرى بشأنه من نقاشات تم الدفع بها لتحقيق استراتيجية التكيف وكسب التأييد، غير إعادة طرح الملف بالقمة الأفريقية الأميركية الأخيرة من 13 – 15 ديسمبر/ كانون الأول، وتحليل للموقف الأميركي والأوروبي تجاه الأزمة.
*قدّرت وزارة البيئة المصرية كلفة برامج التخفيف من آثار التغيرات المناخية بحوالي 211 مليار دولار، بينما تبلغ كلفة برامج التكيف نحو 113 مليار دولار، وضمنهما مشروعات المياه، والتي تبلغ كلفتها، حسب ما أعلن وزير الري السابق محمد عبد العاطي 50 مليار دولار حتى 2037 وقابلة للزيادة إلى مائة مليار، وتتضمّن تبطين الترع بكلفة تفوق 26 مليار جنيه لمسافات تزيد عن 12 ألف كيلومتر، غير مشروعات إدارة المياه وترشيد الاستهلاك عبر نظم الري الحديثة وتقليل البخر. وحسب خبراء في وزارة الري، لا تنتج مشاريع تحلية المياه سنويا أكثر من خمسة مليارات رغم زيادة عدد المحطّات بوتيرة متسارعة منذ 2014، إلا أنها لا تضيف سوى خمسة مليارات سنويا، بينما قدّر خبراء مختصّون في قضايا المياه أن كل مليار متر مكعب يتم تخزينه في بحيرة سد النهضة سيكلف مصر مليار دولار، بما يخلفه من تكاليف تحلية وانتقاص من الإنتاج الزراعي.
*وقد سبق وناقش وزير الري السابق محمد عبد العاطي، في ديسمبر/ كانون الأول 2021، مع أعضاء مجلس الشيوخ جوانب الأزمة في موقف لافت، يتجاوز التحفّظ الرسمي الذي لطالما اتخذته السلطة. وطرح الوزير أزمة الشحّ المائي والتي ستتسع مع الزيادة السكانية والتغيرات المناخية، وهو ما كرّره الوزير المستجد هاني سويلم في اجتماعات مجلسي الشيوخ والنواب أخيرا، بشأن أزمة سد النهضة، والتي غلبت على تناولها مشروعات التكيف. حسب الوزير “شعار المرحلة هو الإدارة الرشيدة للمياه التي تعتمد على العلم والتكنولوجيا لتوفير احتياجات المياه”. وتقدّر الاحتياجات المائية بـ114 مليار متر مكعب سنوياً، يتم سدّها عبر مشروعات إعادة استخدام المياه، واستيراد مصر محاصيل زراعية بما يعادل نحو 34 مليار متر مكعب سنوياً.
*كان مركز الثقل في كسب التأييد منصبّا على الولايات المتحدة، حيث جرى مع ممثليها لقاءان، الأول مع وفد مجلس النواب والثاني مع الرئيس بايدن، وفي كليهما طلبت القاهرة أن تلعب الولايات المتحدة دور الوسيط للوصول إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن ملء سد النهضة وتشغيله يحفظ حقوقها المائية. وجرى، في المقابل، التذكير بدور القاهرة في ملفات الأمن والاستقرار في منطقة مضطربة، غير الإشارة إلى القضية الفلسطينية، بما فيها تفاهمات جرت مع حركة حماس والمساهمة في عمليات إعمار قطاع غزة، ومشاركتها في جهود الوساطة للتوصل إلى هدنة مقابل وقف العدوان. هذا بجانب الملفين السوري والليبي، كما طرحت مسألة أمن القرن الأفريقي بوصفه محلّ اهتمام مشترك وساحة تنافس دولي شديد الارتباط بقضايا المنطقة بما فيها دول الخليج، وهو ما تُرجم لاحقا وبعد القمة الأميركية الأفريقية، بإسناد قيادة قوة المهام المشتركة في البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن. وأعلنت القاهرة بوضوح تطلّعها إلى دور أميركي مؤثر، وربما كان لقاء تالٍ ومطوّلٍ مع وزير الخارجية المصري والإدارة الأميركية، تمهيدا للقمة الأفريقية الأميركية في واشنطن، والتي عقدت في منتصف الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول).
*وراهنت القاهرة على محطّة هذه القمة، لكن بايدن اعتذر عن عقد لقاءات ثنائية، ولم يلمح خلال القمة إشارة إلى وساطةٍ لاستكمال مفاوضات سدّ النهضة بشكل جادّ، كما لم تُبد إثيوبيا في مؤتمر المناخ أو القمة الأميركية الأفريقية مرونةً أو استعدادا للحوار، هذا في وقتٍ حمل فيه مسؤولون مصريون ملفا متكاملا عن سد النهضة إلى واشنطن، رسالته الأساسية أن السدّ يمثل ضررا بالغا ومقصودا، وليس مشروعا للتنمية وتوفير الطاقة وحسب كما تروّج إثيوبيا، بل هو، وبصيغته الحالية، مشروع لتخزين المياه، خصوصا أن القاهرة عرضت المساهمة في بناء السد وتشغيله بما يوفر الطاقة لإثيوبيا. بينما ركّزت واشنطن على قضايا الأمن والدفاع، بما فيها منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر، حيث عقد وزير الدفاع لويد أوستن اجتماعا مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ناقش خلاله الشراكة الدفاعية. على جانب آخر وخلال لقاء وزير الخارجية الأميركي، بلينكن، طرحت قضية حقوق الإنسان طريقا لتعزيز العلاقات الثنائية. وأشار بيان لوزارة الخارجية الأميركية إلى أن بلينكن طالب بإحراز تقدّم في ملف حقوق الإنسان، بما فيها الحرّيات، مشيرا إلى خطوة الإفراج عن المعتقلين.
*وأعادت مصر طلبها بالضغط على إثيوبيا للتوصل إلى اتفاقٍ ملزمٍ لحلّ أزمة سدّ النهضة، خصوصا مع استعداد أديس أبابا لملء رابع، ويبدو أن واشنطن ترهن لعب أي دورٍ مساندٍ للقاهرة بمدى ما تقدّمه في ثلاثة ملفات: نزاعات الشرق الأوسط وقضايا الدفاع والأمن وملف حقوق الإنسان. كما أنها، وبحكم اعتمادها أولا على خيارات دبلوماسية هادئة، وثانيا في ظل تنافس دولي على أفريقيا، لا تريد ممارسة ضغوط فعلية على أدبس أبابا التي ينظر إليها دولة صاعدة، ومهمّة في القرن الأفريقي، وبذلك أيضا تضمن واشنطن وجود ضغوط مستمرّة على القاهرة، وتعطّل أي أفق تنموي أو لعب دور قيادي مركزي في المنطقة التي يُعاد تشكيلها لصالح أطراف أخرى.
*وعلى أرضية التكيّف مع الأزمة، وجذب شراكات واستثمارات جديدة، شهدت القمة الأفريقية الأميركية لقاء بين مسؤولين مصريين ورئيس البنك الدولي ديفيد مالباس، الذي اعتبر مصر نموذجا يُحتذى به في الإصلاحات الاقتصادية. كما أقامت غرفة التجارة الأميركية بمناسبة مرور مائة عام على العلاقات المصرية الأميركية مأدبة عشاء، جرى خلالها نقاش فرص الاستثمار في مستقبل الطاقة كاستكمال لقرارات ووعود مؤتمر المناخ. وخلال القمة، طالبت القاهرة بتخفيف أعباء الديون، ودعم الاستثمار، ونقل التكنولوجيا الزراعية، وتعزيز الأمن الغذائي، وتيسير شروط الإقراض والتمويل، وطرحت قضيتي الأمن المائي والغذائي، بوصفهما من القضايا التي تحقّق استقرارا للقارّة، في إشارة واضحة إلى قضية سد النهضة.
*أعلنت الخارجية الأميركية عن عدة برامج تختصّ بقضايا المناخ، وحرصت واشنطن، سواء في تصريحات أو بيانات رسمية للخارجية الأميركية، على إبراز الدعم الموجّه للقاهرة، بوصفها تلعب دورا في قضايا المناخ، ودعمت عدة مشاريع، بينها مركز القاهرة للتعلم الذي يختصّ ببناء القدرة على التكيف مع التغيرات المناخية في القارّة الأفريقية، وبرنامج تسريع الأمن الغذائي، بالإضافة إلى برنامج دعم وتسريع مشروعات الطاقة النظيفة بالتعاون مع ألمانيا بكلفة 250 مليون دولار، وذلك لإتاحة 10 مليارات دولار من الاستثمار التجاري لدعم اقتصاد الطاقة النظيفة، بالإضافة إلى برنامج “نوفي” الذي يروّج مشروعات في قطاعات المياه والغذاء والطاقة، وهو ضمن الاستراتيجية الوطنية للتغيرات المناخية 2050 والتي تتضمن خمسة مشروعات تركز على تحلية وترشيد الاستهلاك، وسيدعم البرنامج أيضا البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير.
*واستخدمت إثيوبيا قضية المناخ والتنمية إطارا للدعاية لسد النهضة. وسبق أن قالت رئيسة إثيوبيا سهل ورك، في خطاب لمجلس النواب في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إن بلادها تسعى إلى توسيع برنامج البصمة الخضراء ليشمل دول الجوار، واعتبرت أن السد يحافظ على النظام البيئي واستدامة موارد المياه لدولتي المصبّ، بل قالت إنه يمكن أن يمدّ مصر بالطاقة بكلفة عادلة، غير توفير الطاقة لجيبوتي، والاستعداد لتزويد كينيا والسودان وجنوب السودان. بينما كان خطاب رئيس الوزراء أبي أحمد، في قمة المناخ، مكثفا ومركّزا على قضية المناخ، انطلاقا من سد النهضة، ومتحدّثا باسم دول شرق أفريقيا التي عانت من موجات الجفاف والفيضانات، معتبرا أن السد يعزّز الصمود في مواجهة تغيرات المناخ، ويحمى الموارد الطبيعة، ويوفر الطاقة بأسعار معقولة للمنطقة، غير دعايته لمشروعات المسار الأخضر (التشجير والطاقة الخضراء) وإضافة استثمارات زراعية تبلغ 22 مليون هكتار بحلول عام 2030 ضمن مشروعات التشجير، وبشّر في خطابه بإعلان استراتيجية إثيوبية للتنمية منخفضة الانبعاثات 2050 (على غرار الاستراتيجية المصرية)، مشيرا إلى برنامج البصمة الخضراء (أعلن في مايو/ أيار 2019) المدعوم من مؤسّسات دولية، كما برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وفي إطار جذب الاستثمار، عرَض أبي أحمد مشاريع الطاقة المتجدّدة، وطالب بتمويلٍ بشروط ميسّرة، واتخذ أيضا من المناخ نقطة ارتكاز لتعزيز الدبلوماسية الإقليمية. ويمكن القول إن أبي أحمد استثمر حضوره في مؤتمر المناخ في شرم الشيخ فرصة للقاء رؤساء وقادة حكومات أوروبية وأفريقية، والدعوة خلال خطابه في المؤتمر إلى تعزيز التعاون بشأن قضايا الطاقة والمياه، بما جعل المؤتمر منصّة للدعاية وكسب التأييد.
*كان موضوع سد النهضة لافتا في مؤتمر المناخ، ما دعا وزير الري هاني سويلم إلى القول لوسائل إعلام إن مصر لا تقحم السد على أجندة القمة، رغم أهميته واتساقه مع قضايا المناخ. بينما شارك وفد السودان في المؤتمر الذي لم يشهد تنسيقا ظاهرا بين دولتي المصبّ بشأن سد النهضة، كما لم تشهد القمة على هامشها لقاء كان متوقعا بين مصر وإثيوبيا للتباحث في العودة إلى المفاوضات، حيث لم تنجح محاولات سعت إليها السعودية وفرنسا، ولم تُبد إثيوبيا مرونة لاستكمال التفاوض، والتي استمرت خلال ستة أشهر مضت، في خطواتٍ تستهدف عزل السودان عن مصر، بجانب تعزيز علاقتها بدول حوض النيل بحضورٍ مكثف. استضافت إثيوبيا مؤتمرا جمع دول حوض النيل، بينما ردّ بيان الخارجية المصرية على هذا الاجتماع متأخّرا، داعيا دول الحوض إلى الالتزام باتفاق المبادئ الذي ينظّم أوضاع النهر.
*ورغم تعقّد العلاقات الإثيوبية السودانية إلى مستويات مواجهةٍ عسكريةٍ على الحدود، إلا أن إثيوبيا، وبعد إعدامها جنودا سودانيين، حاولت رأب الصدع. وعقد رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان اِجْتِمَاعَيْنِ مع أبي أحمد، الأول في نيروبي على هامش القمة الطارئة لدول منظمة الإيقاد، بداية يوليو/ تموز، واجتماع آخر في أكتوبر/ تشرين الأول خلال مشاركة البرهان في أعمال منتدى تانا الذي يناقش قضايا الأمن الأفريقي، وناقشت إثيوبيا مع السودان مشكلات الحدود ومخطّطات مشروعاتٍ تهدف إلى التعاون الاقتصادي، لتجاوز أزمة العلاقات بين البلدين، بما فيها عرض إثيوبي لإمداد الخرطوم بالكهرباء، فيما ما زالت مشاريع الربط الكهربائي مع القاهرة لا تفي باحتياجات السودان.
*تبدو خطوات مصر تسير في اتجاهين، التكيّف وكسب التأييد لقضيتها العادلة في الحق بالمياه وما يمثله النيل من قضية وجودية، لكن إثيوبيا تستعير هذا الخطاب أيضا وتعتبر السد قضية وجود، أبرزتها في القمة الأفريقية الأميركية حسب تصريحات لخارجية إثيوبيا. ولا تبدو المراهنة على مواقف الاتحاد الأوروبي وواشنطن في كسب التأييد مؤثرة في اتجاه عقد اتفاق ملزم، رغم ما يبديه الطرفان من دعم متكرّر، إلا أن جزءا من الدعم يرتكز على برامج التكيف، والتي لا تستطيع مواجهة نتائج الأزمة أو معالجة شحٍّ مائيٍّ قائم فعليا، وسيزيد مستقبلا، حسب تقارير دولية عدة، تتناول الشحّ المائي واحتياجات مصر، فضلا عن تقديرات وزارة الري المصرية.
*وفي الوقت ذاته، تمارس واشنطن دعايةً بشأن دعم القاهرة في قضايا المناخ، عبر مبادرات وبرامج تختصّ بالمجتمع المدني والتدريب ومشاريع المياه والاستثمار كافة، وفي الدائرة نفسها، تقع معظم مواقف دول الاتحاد الأوروبي، التي تتحدّث عن دعم مالي في مشاريع المياه من أجل الاستقرار. ورغم ذلك، حصيلة ما قُدّم، وفق تقارير أميركية وأوروبية، لا تتناسب مع حجم كلفة التكيف، ولا تعالج آثار أزمة سد النهضة .
*ويتجسّد الموقف الأميركي والأوروبي التي تنظر إليهما إثيوبيا حليفين للقاهرة، إلا في إطار دبلوماسي فحواه تفهم الأزمة والمساهمة في برامج التكيف، أولا وثانيا، تستهدف أوروبا، خصوصا من تعاونها مع دول أفريقيا تأمين مصادر الطاقة، لذا طرحت بكثافة خلال عامين مشاريع الطاقة النظيفة وإمدادات الطاقة وخطوط الربط وإنتاج طاقة من الهيدروجين والرياح والشمس، ولا تمثل مواقف الولايات المتحدة، رغم ما تكرّره من تفهّم للموقف المصري مساندة حقيقية، ولا يتوقّع منها أن تتخذ مواقف أبعد من ذلك، في ضوء استجابات مصر الراهنة للأزمة، والتي تبدو أنها تراهن على التكيّف وتمد حبال الصبر وأمد التفاوض الذي جعل السدّ معطّلا لها، رغم ما أظهرته من دبلوماسية صابرة واستعداد للتعاون.
*وتريد واشنطن، في الوقت نفسه، توظيف مواقف القاهرة للحفاظ على الاستقرار في شرق أفريقيا، ووقف خطواتٍ تصعيدية من القاهرة، وأيضا الإشارة إلى إثيوبيا بألا يسبّب السد أزمة أكبر تدفع إلى التصعيد. وفي القمة الأفريقية الأميركية صور تحمل دلالات على اهتمام أميركي بإثيوبيا، ومحاولة جذبها من أرضية تنافس صينية روسية، ولم يكن حضور أبي أحمد مع الرئيس الأميركي لمتابعة مباراة فرنسا والمغرب في كأس العالم اعتباطيا.
*وظل الموقف الأميركي متسامحا مع إثيوبيا، ومرهونا بحساباتٍ دقيقة، وباستثناء تجميد المساعدات الأميركية في فبراير/ شباط 2021 كرد فعل على انتهاكاتٍ جرت خلال صراع مسلح مع قوات التيغراي، لم تتّخذ واشنطن موقفا ضد أديس أبابا، في مقابل طمأنة دولتي المصبّ، كون أن خطوات أدبس أبابا في بناء السد وتشغيله قريبة لما جاء في وثيقة واشنطن، بما تتضمّنه من جدول ملء خزّان السد، حيث يبدأ بتخزين 4.5 مليارات متر خلال العام الأول، ثم 13.5 مليارا خلال العام الثاني، ثم 12 مليار متر سَنَوِيًّا خمس سنوات.
*وفي النهاية، تكرر واشنطن تأييدا دبلوماسيا لم يتبلور إلى خطوات حقيقية، سواء في وساطة إيجابية (توقفت وساطة الخزانة الأميركية منذ 2019)، أو حتى ضغوط تدفع أديس أبابا إلى استجابة مختلفة تدفع في اتجاه اتفاقٍ بين أطراف الأزمة.
*وإذا كانت إثيوبيا تتصرّف وفقا لأجندة مفاوضات واشنطن، برعاية الخزانة الأميركية والبنك الدولي كمراقبين، إلا أنها ترفض توقيع اتفاقٍ ملزمٍ بشأن إجراءات الملء والتشغيل حال حدثت موجة جفاف، والذي سيستلزم آلية تخفيف الملء خلال فترات الجفاف والجفاف الطويل. ولا يبدو أن موازين القوة وطبيعة الاستجابات والجهود بما فيها خطوات مهمة، كما التعاون مع دول حوض النيل وكسب مواقف عربية ودولية لصالح مصر والسودان ذات تأثير على إثيوبيا يدفعها لعقد اتفاق ملزم، تحتاج القاهرة إلى تنويع الأدوات، وكسب أطراف فاعلة تجعل استمرار إثيوبيا في عدوانها المائي خطوة تحتاج إلى مراجعة من أديس أبابا والأطراف التي تدعمها، كما أن إثيوبيا ترهن مواقفها لهذه الحسابات.
*وكان من المنتظر، بعد إعلان إثيوبيا الملء الثالث، أن تكون أوراق مصر ومواقفها واضحة ومدعومة بخطواتٍ فعليةٍ توقف الخطر، بما فيها خطاب واضح إلى كل الأطراف الشريكة لإثيوبيا التي تعدّ نفسها مالكة للنهر حرة التصرف بمياهه، تحتجزها وتشير إلى تسليعها وفق سيناريوهات تطرح بيع المياه لمصر بديلا عن مشروعات التكيف.
*إجمالا، تتخذ إثيوبيا السدّ نموذجا لتعبئة الموارد محليا، وتعزيز تماسكها ووحدة مكوّناتها الإثنية والعرقية، في ظل صراعاتٍ مسلّحة، فضلا عن دعاية جبهة أبي أحمد بوصف السد انتصارا ومقدّمة لقيادة أفريقيا بوصفه مشروعا جريئا وضخما. وعلى صعيد دولي، وارتباطا بقضايا المناخ، يستخدم السدّ نموذجا للصمود وقيادة إنتاج الطاقة النظيفة، وتعزيز سبل التعاون الإقليمي، وتوثيق الصلة بمؤسّسات دولية في مجالات الطاقة والزراعة.
*وأصبح السد بوابة دبلوماسية لتقوية علاقتها مع كتلٍ دوليةٍ متنافسة، أي في الوقت الذي يمثل السد ضررا بالغا لمصر، فإنه يمثل أحد المكاسب الكبرى لإثيوبيا، وهو ما انعكس في ثنائية الأضرار والمكاسب في مؤتمر المناخ والصراع بين مصر وإثيوبيا في كسب الأطراف المختلفة وقيادة العمل المناخي، وترويج المشروعات المرتبطة بالمناخ، لكن إثيوبيا، وإن كانت تتشابه في عرض الأضرار والخسائر وطلب التمويل، إلا أنها مارست دعايتها من أرضية من سجّل بالتنمية انتصارا في قضايا المناخ، متمثلا في سدّ النهضة، بينما كانت مصر تعرض الأضرار والخسائر من المشروع الذي يمثل فعليا اعتداءً على حقوقها وتقييدا لآفاق التنمية مستقبلا.
نقلاً عن العربي الجديد
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.