عثمان ميرغني يكتب: انتخابات الصحفيين.. تنقيح التجربة البرلمانية السودانية
*صباح اليوم السبت، يبدأ الاقتراع في انتخابات ”نقابة الصحفيين السودانيين“، بعد حوالي 33 سنة من غيابها، وتتنافس بشراسة قوائم تمثل مجموعات صحفية، وآخرون قرروا خوض المعركة منفردين.
*ورغم أن العملية برمتها تعد مرانا ديموقراطيا يوقد شمعة في نفق الأزمة السياسية المعطوبة بالسودان، إلا أنها أيضا تمنح فرصة لاستدراك خلل واضح في ”العملية“ والممارسة الديمقراطية نفسها.
*غابت الانتخابات البرلمانية عن السودان زهاء 36 سنة من آخر مرة منذ انتفاضة أبريل 1985. خلال هذه الفترة الطويلة تغيرت كثيرا التجارب الدولية في ممارسة العملية الديموقراطية عبر الانتخابات.
*في انتخابات السودان في الماضي كان الفرز الفكري هو المحرك الأساسي للأحزاب والتحالفات وخطاب الحملات الانتخابية. وترتفع مناسيب الاستقطاب -بالتحديد في تجارب السودان الانتخابية- على رايات تحمل الألوان الفكرية بعيدا عن أية برامج أو قضايا مرتبطة مباشرة بالمواطن.
*وكانت الدعاية الانتخابية نفسها تتخذ مسارين متوازيين:
الأول: وعود انتخابية مصالحية مباشرة، مثل إدخال الكهرباء أو المياه لقرى كانت محرومة منها، أو تشييد مرافق عامة مثل المدارس أو المراكز الطبية أو الأندية وغيرها.
*والأحزاب التي تمنح مثل هذه الوعود غالبا من التي سبق لها أن تولت الحكم أو تملك الرصيد الجماهيري الذي يجعلها واثقة من تولي الحكم، فهي تقدم الوعود من كنانة الخزينة العامة التي تطمح في الإمساك بمفاتيحها، من جيب المواطن.
الثاني: هو المسار العقائدي، من الأحزاب التي لا تملك سوى الإيديولوجيا في حلبة السباق الانتخابي، فبعضها يعد بحكم الشريعة مثلا، ولمزيد من تمييز ”نوع الشريعة المقصودة“ تلحق بعبارات إضافية..
*مثلا حزب الأمة القومي يدعو إلى (النهضة الإسلامية) ويميز نفسه بشعار ”الله أكبر ولله الحمد“، والحزب الاتحادي الديموقراطي يسميها ”الجمهورية الإسلامية“ ويستخدم النداء المباشر باسم مرشد الطريقة الختمية ”عاش أبو هاشم“ شعارا له، والجبهة الإسلامية القومية تسميها ”حكم الشريعة“ وتستخدم شعار ”الله أكبر“ مجردا من الإضافة التي يستخدمها حزب الأمة ”ولله الحمد“.
*وفي الضفة الأخرى الأحزاب اليسارية، الحزب الشيوعي يرفع راية ”العدالة الاجتماعية“، وسابقا ”عاش كفاح الطبقة العاملة“، وحزب البعث يرفع شعار (أمة عربية واحدة).. وعلى النهج ذاته، تسير بقية الأحزاب تحت راية فكرية محددة وشعار يجسد اللون العقائدي.
*في حال فوز مرشح من المسار الأول، فالوعود الانتخابية هنا أقرب للرشوة، فيشيد المدرسة أو يوصل التيار الكهربائي أو يحفر آبار المياه وغيرها، من حر مال الشعب الذي انتخبه، ثم يمتن عليهم في يوم الافتتاح حيث يُنصب سرادق الحفل فيجلس تحت ظله المسؤولون تحفهم ألوان الشراب والطعام بينما يظل الشعب تحت هجير الشمس يحفه الغبار يستمع لخطب عصماء طويلة تلزمه الإقرار بجميل صنع الساسة الذين لولاهم لما رأى الخدمات التي يُفترض أنها من صميم الحقوق الأساسية للمواطن دافع الضرائب.
*أما إذا فاز أحد مرشحي التيارات الفكرية، فإن أقصى ما يناله المواطن التأسي بقول الشاعر المتنبي: لا خيل عندك تهديها ولا مال.. فليسعد النطق إن لم يسعد الحال.
*يحصد المواطن شعارات هتافية، غير قابلة للصرف أو اللمس، فهي هواء مبثوث في الهواء.
*طوال عمر الممارسة الانتخابية في برلمانات السودان منذ ما قبل الاستقلال في أول تجربة انتخابية عام 1953 إلى آخر انتخابات في 1986، لم يكن في برامج الانتخابات أية إجابات مباشرة لأسئلة حَريّ بأن تكون هي لسان حال المواطن والشارع السوداني.
*أدت هذه الممارسة الانتخابية إلى ضمور العائد الحقيقي منها على الوطن والمواطن، فقد كانت تؤدي لفوز نواب يدخلون قاعة البرلمان بأدنى قدر من المسؤولية المباشرة عن المصالح القومية للوطن، مقارنة بالمصالح الحزبية أو الشخصية.
*أجريتُ حسابا دقيقا لتكلفة الانتخابات البرلمانية من بدايتها بالتعداد السكاني، ثم الإجراءات المعهودة من فتح وتنقيح السجل الانتخابي، ثم عمليات الاقتراع بكل ما فيها من جهد ومال في بلد بمساحة قارة، ثم تكاليف الدورات البرلمانية من أجور ونثريات وغيرها تصرف على النواب، فوصلت إلى أن المواطن السوداني ينفق على النائب البرلماني حوالي 3 ملايين دولار، فيصبح السؤال الحتمي: وكم العائد منه؟
*ليس عائدا ماديا مباشرا، لكن العائد من هذه العملية، الباهظة التكاليف، في المردود التشريعي والرقابي وتعزيز التجربة الديموقراطية بما ينعكس على مجمل الدولة من عافية المؤسسية والازدهار.
*حسابات الربح والخسارة هنا أشبه بما يجري في أندية كرة القدم التي تدفع بسخاء لشراء لاعبين تدرك أن ما تحققه أقدامهم أعلى قيمة من المال الذي يدفع في الشراء ثم الرواتب والحوافز وغيرها. كذلك النائب البرلماني، ما يقدمه بلسانه وعقله وجهده يجب أن يفوق ما أنفق في انتخابه وتسيير أعمال البرلمان.
*حسابات الديموقراطية بالطبع ليست مادية، لكنها قابلة للقياس المادي بمردودها النهائي على الوطن والمواطن.
*والقياس المادي للقيم المعنوية ليس عيبا، فالعدالة مثلا، قيمة معنوية سامية، لكن تحقيقها في أية دولة له مردود مادي خاصة في الاقتصاد، فالاستثمار لا يحط في بلد تحيط به هواجس الخوف على الحقوق والأصول من الضياع والمصادرة بقرارات إدارية مثلا.
*نعود إلى انتخابات الصحفيين السودانيين، فرغم كل هذه التجارب الانتخابية في السودان إلا أن غياب الإجابة عن الأسئلة المباشرة للقاعدة الجماهيرية لا يزال شاخصا.
*صحيح أن القوائم المتنافسة تبدو محفوفة بكل الوقار المهني، لكنّ هناك في الخلفيات والأفق البعيد ألواناً حزبية أو فكرية لا تخفى على العين الفاحصة، وهذا لا ينتقص منها، لكن المحك هو في التوصيف الدقيق لما يميزها. فالناخب وهو يَهم بوضع بطاقته الانتخابية في الصندوق، يجدر أن يعلم يقينا لماذا اختار هذا وليس ذاك، بعيدا عن أية خلفيات سياسية أو فكرية أو شللية أو صداقات شخصية، فقط بمعيار ”نقابي“ مصلحي مباشر.
*عندما تعلن مجموعة في برنامجها الانتخابي أنها تهدف إلى (الدفاع عن مصالح الصحفيين) مثلا، سيكون محيرا هنا معنى“نقابة“ إن لم يكن هو ”الدفاع عن مصالح الصحفيين“.. لا يمكن لمصنع سيارات أن يروج لبضاعته بأنه يصنع ”سيارة تسير“.
*مثل هذه الشعارات تجبر الناخب أن يتأمل في صور المرشحين أكثر من برامجهم الانتخابية، وربما يحاول تفحص تفاصيل السيرة الذاتية، التي تحتشد بالحديث عن خبرة المرشح في تحرير الأخبار والحوارات والتحقيقات الصحفية، رغم أن المنافسة هنا ليست لرئاسة تحرير صحيفة.
*الأسئلة التي يجدر أن تجد إجابة مباشرة في الحملة الانتخابية لنقابة الصحفيين – كمثال للانتخابات البرلمانية المقبلة- تقدم للناخب مقياسا مباشرا لما يحصل عليه حال التصويت لمجموعة أو شخص دون آخرين، بحيث لا تحتاج عملية المفاضلة والاختيار حتى مجرد النظر لاسم المجموعة أو خلفياتها، في معيار كمي وكيفي قابل للقياس المباشر.
*وفي كل الأحوال، هي أول انتخابات حقيقية لأكثر من 33 سنة، وتستحق أن يُحتفى بها دون إغفال الحاجة لتطويرها.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.