جوبهت حركات الاحتجاج والمظاهرات التي تواصل اندلاعها عقب انقلاب 25 أكتوبر 2021 بقمع مفرط، رغم السلمية البائنة والابتعاد عن العنف اللذين اتسمت بهما، وقد كان نتيجة العنف ارتقاء أرواح عزيزة ربت على مائة شهيد. والأمر اللافت في كل هذا المشهد أن النيابة العامة لم تكن حضوراً بقدر جلال الموقف أو تؤدي الأدوار التي كان يتعين أن تلعبها في مثل هذه الأحوال، وهي الطبع أدوار ضرورية لو تم أداؤها بحق وعلى المستوى المطلوب لساهمت في حقن كثير من الدماء، وأوقفت أنهار الدماء السائلة، وفتحت الطريق أمام الكشف عن الجناة وتقديمهم للعدالة.
من السلطات الأساسية التي أوكلها قانون الإجراءات الجنائية السوداني للنيابة أنه جعلها طرفاً أساسياً في تحديد استعمال القوة الضرورية في التصدي للتجمهر، وأن لا يتم استعمال السلاح الناري إلا بإذن منها. فأورد البند (1) من المادة 125: (إذا لم يتفرق التجمهر المذكور في المادة 124 عند صدور الأمر أو تصرف بطريقة مخالفة للأمر فيجوز للضابط المسؤول أن يأمر بتفريق ذلك التجمهر باستعمال أقل قوة ضرورية على أن لا يلجأ لاستعمال السلاح الناري لتفريق التجمهر إلا بإذن من وكيل النيابة). ولم تغفل المادة النص صراحة على أنه (لا يبيح حق استعمال القوة في هذه المادة تعمد تسبيب الموت). وقد استخدم السلاح الناري الذي أدى لتسبيب الموت عند التصدي للمظاهرات بكثرة، إلى الدرجة التي أوحت أنه تدبير طبيعي.
يذكر التاريخ وقفة القاضي عبد المجيد إمام قاضي المحكمة العليا أيام ثورة أكتوبر 1964 الذي أمر القوة التي تصدت لبعض المواكب في لهجة صارمة (أنا عبد المجيد إمام ، قاضي المحكمة العليا، بهذا أمرك بالانصراف بجنودك فورا) وكان يعتمد في أمره للقوة النظامية التي وجه لها الأمر على مثل هذه الصلاحيات التي كان يتمتع بها القضاة، قبل أن تنقل للنيابة العامة عقب الفصل بين صلاحياتها وصلاحيات السلطة القضائية. وكان لوقفته دوراً مؤثراً في تلك اللحظات الحاسمة من عمر ثورة أكتوبر.
منح قانون النيابة لسنة 2017 سلطات واسعة لجهاز النيابة العامة، تعلقت بالأمر بفتح الدعوى الجنائية والسير في إجراءات التحري والتحقيق فيها الرقابة على أماكن الحبس التابعة للشرطة و شرطة السجون وجهاز الأمن والمخابرات الوطني وغيرها من أماكن الحبس، واتخاذ التدابير اللازمة لمنع وقوع الجريمة والحد من استمرارها، وذلك لحفظ الأمن والسلم الاجتماعي، وهذه الصلاحيات كفيلة لتمكين جهاز النيابة من الحد من استخدام العنف و ابتدار التحقيق المطلوب للكشف عن قتلة المتظاهرين وممارسات سلطات واسعة للوصول للحقيقة حول الدماء التي أريقت. وقد ظلت النيابة العامة تشكل غياباً واضحاً عن مجمل المشهد الدامي، وهي أولى الجهات بالحضور باعتبار أن دورها يمثل صمام الأمان الأول في توجيه التصدي للمواكب بصورة سلمية، وتأمينها والتحقيق في الجرائم التي ترتكب وتقديم المجرمين للعدالة لنيل العقاب الذي يستحقون.
ظل جهاز النيابة العامة لفترة طويلة تحت إشراف الجهاز التنفيذي ورئاسة وزارة العدل، فكان وزير العدل هو النائب العام في ذات الوقت، وقد بذلت كثير من الجهود ومورس كثير من الضغط للفصل بين المنصبين، بأن تكون وزارة العدل جهة حكومية تتبع للاشراف المباشر للجهاز الحكومي، وأن تتمتع النيابة العامة بقدر مناسب من الاستقلال. ونتج عن ذلك استقلال جهاز النيابة العامة ليكون على مسافة واحدة من كل الجهات المعنية لأداء دوره بحيادية بما في ذلك وقوفه لحماية الجمهور من عسف الدولة عندما تكون خصماً له وليس طرفاً في مصلحته، وكلل هذه الاستقلال بصدور قانون النيابة لسنة 2017 الذي تبنى فكرة استقلالية النيابة العامة.
ثم جاءت الوثيقة الدستورية بعد ثورة ديسمبر فأكدت أن تكون النيابة العامة جهازاً قائماً بذاته ولا يتبع بصورة مباشرة لإحدى سلطات الدولة الثلاثة، فنصت في فصلها التاسع على استقلال النيابة العامة وأكدت على إنشاء مجلس أعلى للنيابة يتولى الاشراف عليها. وأعطته سلطة ترشيح النائب العام. وبالطبع فإن ما أوضحته الوثيقة الدستورية حمل أشواق الثورة في أن يكون جهاز النيابة بعيداً عن سلطان أجهزة الدولة الأخرى بحيث يؤدي دوره في التحقيق والتحري وأداء أدوارها الأخرى بما فيها محاولة الوصول للجناة بحرية بعيداً عن أي تأثير ضار.
وقد منح مجلس السيادة صلاحية استثنائية لتعيين أول نائب عام إلى حين تشكيل المجلس الأعلى للنيابة. إلا أن هذا الاستثناء استخدم كصلاحية دائمة. فلم يتم تشكيل المجلس الأعلى للنيابة طوال الفترة الانتقالية، واستخدمت السلطة الاستثنائية كسلطة دائمة للسيطرة على جهاز النيابة من قبل مجلس السيادة بتعيين وإقالة النائب العام ومن ثم إفقاد جهاز النيابة العامة استقلاليته المطلوبة وحياده الكفيل بمنحه القوة لمجابهة تعسف الدولة واشتطاطها. وكل الذين مروا على منصب النائب العام خلال الفترة الانتقالية بمن فيهم النائب العام الحالي عبروا إليه من خلال اختيار مجلس السيادة، ولم يأتوا إليه من خلال المجلس الأعلى للنيابة الذي كان يتعين أن يحافظ على استقلال جهاز النيابة العامة، ومن ثم يصعب تصور استمرار قدرتهم على الوقوف في وجه إرادة من قاموا بتعيينهم أو القيام بواجبهم في التصدي للعنف غير المبرر أو التحقيق بشأنه على النحو المطلوب.
يواجه جهاز النيابة العامة تحديات أخرى من بينها أن كل الأجهزة النظامية التي تتصدى للمواكب المعارضة لا تقع تحت إشراف النيابة، فجهاز الشرطة وحده هو الذي يقع تحت الاشراف المباشر لها وفق النصوص التي قررها قانون الإجراءات الجنائية، أما قوات المخابرات العامة والدعم السريع والقوات المسلحة فليس للنيابة العامة مسؤولية الاشراف عليها.
كما أن النيابة العامة أيضاً تقف مكبلة في مواجهة الصلاحيات الواسعة التي منحت لأفراد الجهات النظامية التي تتولى تنفيذ قوانين الطوارئ وعلى وجه الخصوص أمر طوارئ رقم (3) لسنة 2021 بتفويض سلطات والقبض على الأشخاص ومنح حصانات والذي أصدره السيد رئيس مجلس السيادة عقب انقلاب 25 أكتوبر 2021 ، ونص على منح القوات النظامية سلطات الاعتقال والحجز على الأموال والسلع والأشياء ودخول أي مباني وتفتيشها وتفتيش الأشخاص، كما أقام حولها سياجاً من الحصانة الإجرائية التي أضفيت على أعمال أفرادها بما فيها عدم اتخاذ أي إجراءات في مواجهتهم إلا بإذن من رئيس مجلس السيادة.
يعرقل أمر الطوارئ المذكور عمل النيابة العامة ولا يمكن القول بغير ذلك، إلا أنه في ذات الوقت لا يجعلها عاجزة تماماً. فلا تزال لديها من الصلاحيات ما يمكنها من التصدي لأعمال العنف والتحقيق و فرصة السعي للكشف عن القتلة.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.