حملت الأخبار إعلان رئيس مجلس السيادة السيد/ عبد الفتاح البرهان، أنه عقد اجتماعاً مع رئيس القضاء والنائب العام لدراسة الوضع القانوني للمحتجزين، وتسريع الإجراءات الخاصة بهم. وذكر أنهم خلال ثلاثة أيام سيكونون في الخارج ليسهموا مع إخوانهم. ولا يمكن النظر إلى مثل هذا التنسيق، إلا في إطار انتهاك نظام إدارة العدالة وتسييسها. فأي وضع يسمح لسلطة أخرى بالتدخل في الشأن القضائي أو توجيهه يتعارض والمعايير المعتمدة لاستقلال القضاء، التي لا تجيز أن تكون للسلطة التنفيذية رقابة على العمل القضائي، ويحظر عليها القيام أو عدم القيام بأي عمل من شأنه التأثير في الأحكام القضائية.
من الضروري التمييز بين القبض المبني على تهم جنائية واضحة، والقبض الذي لا يستند إلا على أسس سياسية. فالقبض المؤسس على تهم جنائية لها ما يسندها من الأدلة التي تحققت منها الأجهزة المختصة يجب أن تستمر إجراءاتها على المسار العدلي المحدد لها قانوناً وأن تكون خاتمتها محاكمة عادلة وفق المدد القانونية التي يحددها القانون، وليس لأي جهة كانت الحق في تسريعها أو إبطاء الإجراءات بخلاف ما هو معتمد في الإجراءات الجنائية. أما القبض الذي ليس له أساس فليس سوى انتهاك لحقوق الانسان تتحمل وزره الجهات القيمة عليه. وتستبطن عبارات السيد رئيس مجلس السيادة بتسريع الإجراءات الخاصة بالمحتجزين وأنهم سيكونون خلال ثلاثة أيام في الخارج ليسهموا مع إخوانهم، أن احتجازهم كان احتجازاً سياسياً وليس لاعتبارات جنائية، وهذا ما يتطلب الوقوف عنده. فلا يجب أن تكون السلطة القضائية طرفاً في تسويات أو معالجات سياسية.
في النظم الديمقراطية التي تجذر فيها مبدأ الفصل بين السلطات الثلاثة القضائية والتنفيذية والتشريعية، ونمت فيها حساسية مرغوبة تجاه التدخل السياسي في إدارة العدالة، فإن مثل التنسيق بين السيد رئيس مجلس السيادة من جانب وكل من رئيس القضاء والنائب العام، يقيم الدنيا ولا يقعدها ويعد خطيئة في إدارة العمل العدلي. ففي حالة تحمل بعض الملامح لهذا التدخل خلال فترة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، دعا أكثر من ألف مسؤول في وزارة العدل الأمريكية وزيرهم إلى الاستقالة بعد تدخله لخفض عقوبة روجر ستون، مستشار الحملة الانتخابية للرئيس ترامب، وسعوا إلى رفع الأمر إلى المحقق العام والكونغرس للتحقق من وجود إشارات تدل على أن الوزير مارس عملاً يمكن أن يعد غير أخلاقي. ويعود السبب في هذه الضجة إلى توصية رفعها وزير العدل حول العقوبة على روجر استون تزامنت مع تغريدة للرئيس ترمب بتخفيف العقوبة عنه، رغم تأكيد وزير العدل أنه لم يقم بمناقشة خفض العقوبة مع البيت الأبيض، لكن ذلك لم يخفف شعور منسوبي وزارة العدل الأمريكية وقلقهم على التدخل السياسي في إدارة العدلة. وقد ظل شعور وزير العدل نفسه بالامتعاض من تغريدات الرئيس ترمب التي يفهم منها تدخلاً سياسياً في شؤون وزارة العدل، وانتهى به المطاف إلى الاستقالة قبل أن يكمل الرئيس ترمب فترته الرئاسية.
تعد آلية تعيين كل من رئيس القضاء والنائب العام أحد الضمانات في تحصين الأجهزة العدلية من التدخل السياسي في أعمالها أو التأثير عليها. وقد انتهكت هذه الضمانة خلال الفترة الانتقالية وتواصل مسلسل الانتهاك بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021. فقد نصت الوثيقة الدستورية على مبدأ الفصل بين السلطات، وعلى استقلال القضاء من خلال إقامة مجلس القضاء العالي، الذي يحل محل مفوضية الخدمة القضائية ويتولى زمام إدارة السلطة القضائية، فأدرجت في الوثيقة الدستورية المبادئ التي تكرس هذه الاستقلالية، كما نصت على نشوء مجلس القضاء العالي الذي يتولى اختيار رئيس القضاء، إضافة إلى المجلس الأعلى للنيابة الذي يتولى اختيار النائب العام. وظلت كل هذه التدابير حبراً على ورق طوال الفترة الانتقالية وتم الاكتفاء بنص استثنائي يسمح، لمجلس السيادة بتعيين كل من رئيس القضاء والنائب العام إلى حين تشكيل المجلس التشريعي، وهو النص الذي استغل في شغل هذين المنصبين على أساس سياسي وليس مهني. وتم تكريس هذا الوضع بعد قرارات 25 أكتوبر 2021، فأصدر مجلس السيادة الانتقالي قراره بتعيين السيد/ عبد العزيز فتح الرحمن عابدين رئيساً جديدا للقضاء خلفاً للسيدة/ نعمات محمد عبد الله، رغم التأكيد الذي أطلقه رئيس مجلس السيادة باستكمال الأجهزة العدلية. ومثل هذا التعيين يهدر استقلال القضاء ويجعل رئيس القضاء خاضعاً للسلطة السياسية التي عينته، ومن ثم لا يتوقع أن يقوم بالحفاظ على استقلالية القضاء بالقدر المطلوب
تعيد واقعة تنسيق رئيس مجلس السيادة مع رئيس القضاء والنائب العام إلى الأذهان ما أشار له السيد شمس الدين كباشي المتحدث الرسمي بالمجلس العسكري في مؤتمر صحفي عقب فض اعتصام القيادة وأوضح فيه أنه تم دعوة رئيس القضاء والنائب العام لاجتماع والتشاور معهما حول فض اعتصام القيادة. وقد تمتعت السلطة القضائية بالحساسية المطلوبة وأصدرت بياناً نفت فيه ما أورده المتحدث الرسمي بالمجلس العسكري، وذكر البيان أنه تمت دعوة رئيس القضاء إلى اجتماع في وزارة الدفاع لم تحدد أجندته، فطلب المجلس العسكري رأي رئيس القضاء والنائب العام المكلف، ورد رئيس القضاء أن الأمر ليس من اختصاصه وأن السلطة القضائية غير معنية بمثل هذه الإجراءات وأن ما يليها هو اختصاص قضائي فصلاً في الخصومات والنزاعات وفقاً للقانون. وبالطبع فإن ما أورده البيان من الاختصاص القضائي هو مهام السلطة القضائية التي يجب أن تؤديها باستقلالية تامة دون أن تتأثر بأي تنسيق مسبق مع أجهزة الدولة الأخرى، بما في ذلك المجلس السيادي.
من الواجب على السلطة القضائية أن تصدر بياناً على نسق البيان الذي أصدرته بعد تصريح الناطق الرسمي للمجلس العسكري عقب فض اعتصام القيادة، توضح فيه طبيعة التنسيق الذي تم مع السيد/ رئيس مجلس السيادة حتى يمكن الاطمئنان إلى طبيعة الإجراءات القضائية التي تتخذ بحق المحتجزين
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.