أماني إيلا تكتب: (خيباتنا الوطنية )
*الاحتقانات السياسية بالسودان، تاريخ طويل متجدد، حتى متى!؟
*الناظر المتجرد للتاريخ السياسي الحديث بالسودان لن يعجزه إدراك أن ظاهرة الاحتقانات السياسية الخانقة ليست وليدة اليوم ولا اللحظة، وسيجد أنها متلازمة رافقت العمل السياسي بالسودان في تاريخه السياسي الحديث منذ استقلال البلاد وخروج المستعمر في العام 1956م، بل يقول بعض المؤخرين إن هذه المتلازمة برزت وسادت على فترات متفاوتة في تاريخ السودان القديم منذ عهود الممالك ما قبل فترة الاستعمار الإنجليزي والحكم الثنائي، ولعلنا هنا باستعراض بعض أبرز محطات هذا الاحتقان السياسي المدمرة وأكثرها تأثيراً في تاريخنا السياسي الحديث نثبت القول بأن لهذه المتلازمة المدمرة جذور راسخة في المجتمع السياسي السوداني وأن آثارها المدمرة هي ما ظلت تقعد بالسودان عن النهوض والتقدم برغم أنه يذخر بمقدرات وثروات لم تحظَ بها كثير من الدول التي سبقته بالنهوض والتقدم وبلغت درجات الرفاهية العليا بينما لا يزال شعب السودان يرفل في الفقر والعوز ويكافح لتوفير أبسط مقومات الحياة الكريمة.
*أول محطات الاحتقانات السياسية السودانية وأبرزها كانت بعيد الاستقلال مباشرةً، حين لم تكن الساحة تعج بهذا الكم الكبير من الأحزاب والكيانات السياسية التي تملأ الساحة اليوم، بل كانت ثلاثة أحزاب رئيسية استلمت البلاد من المستعمر وشكلت الحكومة الوطنية الأولى بائتلاف من الحزبين الكبيرين الوحيدين بالبلاد، إلا أن الحزبين وبرغم تشابه قواعدهما المبنية على الطائفية الدينية وأنهما لا خلافات فكرية كبيرة بينهما إلا أن الخلافات السياسية تفجرت بينهما ووصل الاحتقان والاختناق السياسي طريقاً مسدوداً مما دفع بالأميرال عبد الله خليل بك رئيس الدولة حينها بتسليم السلطة للجيش ممثلاً في الفريق عبود طواعية ودون أي رغبة من الجيش في ذلك، فكانت السنة السيئة الأولى التي أخرجت الجيش من ثكناته ليتدخل بالسياسة والسلطة.
*ثم كانت محطة الاحتقان الثانية المدمرة بعيد ثورة أكتوبر التي أجمع فيها الشعب على تنحية حكومة عبود عن السلطة، علماً بأن حكومة عبود كانت مدنية بغالب وزرائها، وعسكرية في قيادتها فقط، وفي هذه المحطة ظهرت التيارات الأيدولوجية اليمينية متمثلة في أحزاب الإسلاميين وكذلك اليسارية متمثلة في الشيوعيين والقوميين العرب وغيرها من العلمانيين، وبرغم ما كان لهما من دور في ثورة أكتوبر 1964م إلا أنهما كانا أيضاً ذوا دور لا يمكن إغفاله في تأجيج الصراعات والاحتقانات السياسية المدمرة بالبلاد، إذ تشهد الأحداث بعد ثورة أكتوبر بتفجر الصراعات بين كافة المكونات السياسية ولعل من أبرز نتائج ذلك طرد الحزب الشيوعي من البرلمان الذي قاده بتحالف مع أحزاب اليسار الصغيرة للتآمر على تجربة الديمقراطية الثانية بالتخطيط وتنفيذ انقلاب مايو الذي أجهض الديمقراطية، وكرر السُنة السيئة للأحزاب السياسية بجر ودفع الجيش لاستلام السلطة وممارسة السياسة، وبرغم أن السلطة قد دانت لليسار كاملة إلا أن الاحتقانات السياسية داخل اليسار نفسه بعد أقل من عام ونصق من استلامه للسلطة قادت البلاد للطريق المسدود مرة أخرى فكانت أحداث انقلاب هاشم العطا (العسكري المدفوع بحزبه المدني) والتي أرجعت البلاد خطوات للوراء وأسلمت كامل السلطة للنميري.
المحطة الثالثة للاحتقان السياسي المدمر كانت بُعيد سقوط نظام النميري بثورة أبريل 1985م، إذ تكرر نفس سيناريو ثورة 1964م الحافر حذو الحافر بكامل تفاصيلها، عدا أن من تم طرده من السلطة هذه المرة كان اليمين السياسي المتمثل في الجبهة الإسلامية وليس الحزب الشيوعي، مما دفعه، مرة أخرى، لممارسة السنة السيئة للأحزاب المدنية السياسية لجر الجيش لاستلام السلطة وإدخال البلاد في نفق طال لثلاثين عاماً ولا يزال.
*من هذا السرد التاريخي، وبالنظر لواقع الساحة السياسية الحالية، وبمقارنة بسيطة للأوضاع في محطات الاحتقان السياسي المدمرة السابقة التي سردناها، نجد أن حالة الاحتقان والاختناق السياسي الحالية هي الأخطر على الإطلاق في تاريخ السودان القديم والحديث، وذلك ليس فقط بسبب كثافة عدد القوى السياسية وتباعد مواقعها الأيدولوجية وتباين مواقفها السياسية، بل تكتسب المحطة الحالية خطورتها أيضاً إضافة لما ذكرت سابقاً من هشاشة الوضع الأمني والاقتصادي والاجتماعي الماثل الآن والذي لم يسبق له مثيل في المحطات السابقة، وكذلك من التغير النوعي لطبيعة المتشاكسين السياسيين حالياً حيث يملك غالبه قوة غير قوة الشارع، قوة السلاح المنتشر بكثافة، وكذلك اختلاط العسكريين من حركات الكفاح المسلح بالمجتمع المدني وممارسة السياسة وسطهم، وكذلك لجوء الأحزاب المدنية للتسلح والتدريب (كتائب بعض الأحزاب كمثال)، ويزيد المشهد تعقيداً وخطورة تضارب تقاطع مصالح محاور دولية وإقليمية تلعب أجهزة مخابراتها دوراً لا تخطئه العين في تحريك أحداث الساحة السياسية السودانية.
*يبقى السؤال الذي يطرح نفسه، ويجب أن يخاطبه المفكرون والسياسيون ويجدوا له إجابة عقلانية إن أرادوا للسودان وبالسودان وأهله خيراً: وهو سؤال تتناسل منه أسئلة: لماذا ظلت الخلافات، ثم الاحتقانات، ثم الاختناقات، ثم الطرق المسدودة، ثم الانفلاتات ثم الانقلابات تسيطر على واقعنا السياسي منذ الاستقلال وتمنعنا عن النهوض؟ لماذا (ما اجتمع سودانيان إلا وكان التشاكس ثالثهما)!!؟ حتى متى ستظل أحزابنا المدنية تتشاكس ثم تهرول نحو العسكر، ثم تولول من العسكر وتطالب بالمدنية!؟
*بظني المتواضع، أن السودان لن يخرج من دوائر الاحتقانات والاختناقات السياسية هذه، ولن تنهض به إلا (سلطة قوية قابضة متوافقة وطنية متجردة) بلا صبغات أيدولوجية ولا جهوية ولا عنصرية، توقف عبث وتشاكس مكونات الساحة السياسية الحالية إلى غير رجعة، وتتجه بجهود كفاءات وطنية مستقلة لتؤسس لبناء (دولة وطنية) و(حياة كريمة) للشعب، بعيداً عن الترف السياسي السفسطائي غير المجدي، وبعد أن تؤسس تلك الدولة وتوفر تلك الحياة الكريمة يتم إتاحة بعض الحريات السياسية في مواعين ومؤسسات مجتمع مدني حديثة ومعافاة وفق قوانين وضوابط صارمة، هذا أو استمرار سلسلة خيباتنا الوطنية المتتالية.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.