1
لمدة عام كامل، استمرت المفاوضات بين “شركاء عملية السلام ” في جوبا. اختاروا مسمى “الشركاء” وفسروا ذلك بقولهم أنهم لا يمثلون طرفين متخاصمين وإنما أطرافاً تستند إلى مرجعية واحدة، تنضوي تحت مظلة تحالف قوى الحرية والتغيير !
واختار الشركاءُ المتحاورون أسلوب “المسارات” طريقة للتفاوض، واجتهدوا في تفسير فكرته والدفاع عنها وفي طمأنة المشفقين على وحدة السودان بأن هذا هو الأسلوب الأنجع لتحقيق السلام، وأنهم لن يُفرطوا في وحدة التراب الوطني .
وبعد انقضاء العام خرجوا على الناس بمجموعة من البرتوكولات غطت كل ولايات السودان عدا ولايتي الخرطوم وشمال كردفان .
لم يحتج أحد لماذا يستغرق “الشركاء” كل هذا الوقت لكي يتفقوا مع إنهم شركاء، فالناس كانت ترغب في سلامٍ مرضيٍ عنه من الجميع، وتعتقد أنه من الأفضل أن ينضج على نارٍ هادئة.
ولتأكيد الجدية وتجنب “أخطاء الماضي” ألزم الشركاء – بكامل طوعهم واختيارهم – أنفسهم بمصفوفة زمنية استغرق نقاشها هي الأخرى زمناً، وحددوا فيها مواقيت تنفيذ ما تمّ الإتفاق عليه.
2
اشتملت المصفوفة على (47) بنداً، وحين أعدتُ قراءتها لاحظتُ أن الشركاء ألزموا أنفسهم بتنفيذ أكثر من نصف ما جاء في المصفوفة خلال المائة يوم الأولى بعد توقيع الإتفاق ، وكنت قد تفاءلت بذلك لعدة أسباب أولها أن الإتفاق لم يتم تحت أي نوع من أنواع الضغوط، وثانيها أن أغلب ما جرى وضعه في المصفوفة ، مطلوب تنفيذه من المتفاوضين أنفسهم، أي حكومة الفترة الانتقالية والجبهة الثورية، وثالثها أني استشعرت من رمزية المائة يوم الأولى نوعاً من أنواع الجدية وحسن التخطيط ، فهي المدة التي تعارف خبراء الإدارة على اعتبارها المدة الزمنية الكافية لإصدار أحكام أولية على مدى نجاح أو فشل فترة حكمٍ ما.
3
في الثالث عشر من يناير الجاري، إنتهت مدة “المائة يوم الأولى” على توقيع إتفاق السلام في جوبا (وُقع في الثالث من أكتوبر ٢٠٢٠) ،فعدتُ إلى مصفوفة الشركاء مرة أخرى أتفحصها وأراجع الآجال المحددة أمام كل بند من بنودها، فخرجت بحصيلة مؤسفة رأيت أن أعرضها على القراء فربما وجدت بينهم مَن يشاركني أسفي ولو على طريقته الخاصة !
حتى الآن تمّ تنفيذ ستة بنود فقط ، من بين ستة وعشرين بنداً في المصفوفة كان يتعين إنفاذها ؛ ومن بين هذه البنود ثلاثة تصدرت المصفوفة ، وهي تتعلق بإدخال تعديلات على الوثيقة الدستورية لكي تنسجم مع الإتفاقية – فالاتفاقية بمنطق أطرافها، وهم أهل الحل والعقد، تعلو على الوثيقة الدستورية – وقد تم إنجاز هذه البنود (إدراج الإتفاقية في الوثيقة الدستورية وتمديد عمر الفترة الإنتقالية واستثناء ممثلي الأطراف من شرط عدم الترشح للانتخابات القادمة) ، في وقت معقول وبتأخير بضعة أيام فقط، أما الثلاثة الأخرى التي تمّ إنجازها فهي مؤتمر شركاء السودان وإصدار قرار بالعفو العام عن منسوبي الجبهة الثورية وتكوين لجنة من الوسيط والأطراف لمتابعة تنفيذ الإتفاق، ولعل هذا البند الأخير هو ما يفسر التحركات المكوكية للسيد توت قلواك بين جوبا والخرطوم وكونه ، بالدارجة السودانية “سوى الدّرِب ساساقة” .
4
عشرون بنداً من المصفوفة، يمتد أوان تنفيذها من سبعة أيام بعد تعديل الوثيقة الدستورية مروراً بثلاثين يوماً فستين فتسعين، بقيت حتى الآن، حبراً على ورق كما يقولون، تتصل غالبيتها العظمى بإعادة هيكلة الأجهزة العليا للدولة بما في ذلك مجلسي السيادة والوزراء، وتشكيل المجلس التشريعي، والمفوضيات القومية وتمثيل أطراف العملية السلمية في هذه الهياكل في سياق ما عُرف ب “تصفير عداد الفترة الإنتقالية”. ومعروف أنه بدون هذا كله لا يمكننا القول أن قطار السلام قد تحرك نحو محطاته المرجوة.
أكثر من مائة يوم مضت حتى الآن، والرأي العام في عزلة تامة عمّا يجري في ملف تنفيذ الإتفاق، فهو إما أنه في حيرة من أمره، لا يجد تفسيراً لأسباب هذا البطء ، أو أنه لم يعد يكترث بالأمر أصلاً ، وكلا الفرضيتين لا تصبان في مصلحة العملية السلمية التي هي “مش ناقصة” أساساً !!
5
“السلام سمح” ، ومع هذا فإن طرفين مهمين من أطرافه، هما مجموعة عبد العزيز الحلو ومجموعة عبد الواحد محمد نور ، يبتعدان أكثر فأكثر عن مساره (مسار جوبا) ، إما برفضه صراحة ومن حيث المبدأ، كما في حالة نور أو برفضه عملياً من خلال وضع العراقيل والشروط المسبقة أمام بدء التفاوض كما في حالة الحلو، ولا تبدو حكومة جنوب السودان التي كان القائد عبد العزيز الحلو ورفاقه عقار وعرمان وجقود جزءً من جنرالات جيشها الشعبي حتى بعد انفصال الجنوب، لا تبدو قادرة على ممارسة ضغوط جدية على الحلو ليُقبل على التفاوض بجدية ويجعل “شروطه” بعديّة فيضعها، إن شاء الله، على طاولة البحث حينها.
هذا الواقع – واقع التأخير غير المبرر في الإلتزام بتنفيذ مصفوفة الإتفاق – من شأنه أن يعطي حيثيات إضافية للذين لم يلتحقوا بمسيرة السلام ، من “غير الشركاء”، بأن قيادة الفترة الإنتقالية ، بشقيها المدني والعسكري، لا تملك رؤية متكاملة للتفاوض، ولا أقول لا تملك الإرادة السياسية الكافية لفرض السلام بالحسنى!!
6
صحيح أن السلام هو لحمة وسداة الإستقرار المُفضي إلى جلب الاستثمار والتنمية من خلال حسن التخطيط والتنفيذ، وأن أي ثمنٍ يُدفع في سبيل السلام يمكن تعويضه، وهو في كل الأحوال أفضل من ثمن الحرب، لكن الصحيح أيضاً أن هذا الحديث ليس على إطلاقه، فالإقبال على السلام بتردد أو بتكتيكات البحث عن مغانم قريبة، أو لفرض أجندة سياسية معزولة فشل المحاربون في فرضها من خلال فوهة البندقية، هو أمر لا يجوز اعتباره تفاوضاً يُرجى من ورائه سلام، ولا يستحق التضحية من أجله بأي ثمن.
والمعادلة التي نعتقد بصحتها في هذا الشأن هي أن أي وقت يمضي من دون تفاوض جدي وسلام يحقق الحد الأدنى من الرضى لدى أطراف التفاوض هو هدر من عمر الوطن وخصم من استقراره ورفاه أجياله القادمة، وعلى مَن بيدهم السلطة أن يتذكروا ذلك جيداً وأن يضعوا أمام الرأي العام الحقائق كما يرونها حتى يحكم لهم أو عليهم.
وعليهم كذلك أن يتذكروا أن استكمال السلام وتحقيق الاستقرار وتنفيذ أولويات الفترة الإنتقالية يحتاج إلى سياق سياسي شامل يجعل من وحدة الصف الوطني وتصالح تياراته السياسية وقواه الحية هدفاً أصيلاً للسلام الشامل، لا شعاراً للاستهلاك المؤقت، فالسلام لا يعني وضع البنادق المشرعة فقط وإنما أيضاً تجنب هضم الحقوق الذي يمكن أن يدفع آخرين لرفع بنادقهم.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.