تحوّلت عبارة “اليوم التالي”، في الأشهر الأخيرة، إلى “ترند” شائع في الصحافة والإعلام، فبعدما شاع هذا المفهوم بكثرة أثناء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، يحضر اليوم هذا المفهوم بقوة في المشهد السوداني، ولا سيما بعد التطورات أخيراً، والتي يبدو أنّها بدأت ترسم ملامح المرحلة المقبلة في السودان، وتثير التساؤلات حول “اليوم التالي للحرب”.
تطوران مهمان خلال الأيام الماضية يرسمان ملامح المرحلة المقبلة في السودان: الأول إعلان قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان عن خريطة طريق للإعداد لمرحلة ما بعد الحرب، واستئناف العملية السياسية الشاملة في البلاد، والذي أثار جدلاً كبيراً بين السودانيين، خاصة لدى القوى السياسية المدنية، التي تباينت ردود فعلها حول هذه الخطوة بين متفائل بإمكانية إحداث تغيير حقيقي في المشهد السياسي للبلاد التي مزقتها الحرب، ومتشكك في جديتها وأهدافها الحقيقية، وفريق ثالث يرى فيها إعادة لتركيب المشهد السوداني قد يفضي إلى انقسام البلاد.
إذ تظهر القراءة المتأنية لهذه الخريطة، التي تضمّنت في أهم بنودها تشكيل “حكومة حرب” خلال الفترة المقبلة تتكون من كفاءات مستقلة (تكنوقراط) لاستكمال مهام الانتقال، وإعانة الدولة على تجاوز تبعات الحرب بعد إجراء التعديلات اللازمة في الوثيقة الدستورية، وإجازتها من القوى الوطنية والمجتمعية، أنّها تغفل أهم أمر في الواقع السوداني، وهو الحرب الدائرة، التي لم تنتهِ بعد، والتي لا تزال مناطق عديدة تقع تحت وطأتها، لذلك ترى العديد من القوى السياسية والمجتمعية السودانية أن من الصعب التكهن بتكوين حكومة مستقلة من الكفاءات، تعمل على بناء السلام وتهيئ الأوضاع للانتقال الديمقراطي، في ظل استمرار النزاع المسلح في السودان، ويرون في هذه الخطوة مجرّد خطة لاستدراج زمني غير محدود بمواقيت محددة للاستمرار في السلطة، وأيضاً سبباً لاتساع نطاق الاختلافات السياسية التي ستكون مبرراً إضافياً لاستمرار الحرب واتساع نطاقها، ولا سيما أنّ هذه الخريطة لا تزال تفتقر إلى الوضوح في بعض القضايا الرئيسية، مثل آليات إنهاء الحرب، ومستقبل القوات المسلحة في السياسة، وضمانات التحوّل الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة، وبالتالي يرون فيها بعدان، الأول داخلي وهو إتاحة الفرصة للبرهان للاستمرار في الحكم بحرية والسيطرة على مفاصل الدولة لفترة تمتد على الأقل خمس سنوات، والثاني خارجي وهو محاولة فتح أفق سياسي مع المجتمعين الأفريقي والدولي يساعد من جهة في رفع تجميد عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي، ومن جهة أخرى يفتح الباب باتجاه تحسين العلاقات مع كل المؤسسات الدولية.
التطور الثاني، الإعلان عن انقسام التحالف في تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)، أكبر تحالف سياسي معارض، إلى مجموعتين، إحداهما تؤيد إقامة حكومة موازية في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، وأخرى ترفض ذلك، حيث أثار هذا الإعلان تساؤلات عديدة بشأن المعادلة السياسية الداخلية في المرحلة المقبلة، بما تتضمنه من أطراف وأهداف، كما أثار جدلاً واسعاً بين السودانيين بين من اعتبره دليلاً على فشل القوى المدنية المكونة للتحالف بعد سعي بعضها إلى تقسيم البلاد بتكوين حكومة تحتمي بسلاح الجنجويد، ومن اعتبره انتصاراً للتيار الداعم لوحدة السودان.
طبقاً لهذا المشهد المفتوح على تحولات مهمّة، يشير الواقع على الأرض، في ظل استمرار الحرب، إلى أنّ أي حديث عن مرحلة ما بعد الحرب يظل رهيناً بمدى التوافق الدولي والإقليمي وقدرته على التأثير على الأطراف المتصارعة لتقديم تنازلات حقيقية، في ضوء أمرين: وجود طموحات للجيش في الحكم، وشيطنة الأطراف السياسية السودانية بعضها بعضاً، وبالتالي، لا تزال ملامح المرحلة المقبلة أو “اليوم التالي” للحرب مبهمة، وما يؤكّد ذلك أن لا البرهان ولا حميدتي لديهما وحدهما مفتاح “اليوم التالي”، فالأمر مرتبط، كما بات الجميع يدرك، بطبيعة الموقف الدولي ودوره، وكذلك مدى التنسيق بين الدورين الدولي والإقليمي، ومدى قدرتهما على تنسيق الجهود، وتبادل الأدوار بين الأطراف المتصارعة في السودان. وعليه لا يمكن فصل تطورات “اليوم التالي” في السودان عن الحسابات الإقليمية والدولية، والتي تسعى فيها بعض القوى لإعادة تموضعها في المشهد السوداني بما يخدم مصالحها، عبر دعم أحد الأطراف على حساب الآخر.
ختاماً، يمكن القول إنّ السودان لا يزال يواجه معادلة معقدة حول “اليوم التالي” للصراع، تمتزج فيها رهانات القوى الداخلية بحسابات الأطراف الخارجية، في مشهد يبدو أقرب إلى إعادة إنتاج أزمة قد تكون طويلة الأمد، أكثر من كونه مقدّمة لحل شامل ومستدام.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.