أبو بكر محمد أحمد إبراهيم يكتب: إيقاف حرب السودان بالسياسة… مسار ثالث
على الرغم من أن سؤال “من أشعل الحرب في السودان؟” ليس مهمّاً من منظور وقع الحرب على كلّ من اكتوى بنارها وآثارها المباشرة، وهؤلاء يمثّلون الملايين الذين يبحثون عن الأمن وحفظ الأنفس والأعراض والأموال، إلّا أن تدبّر شيء من تعقيدات الإجابة عن ذلك السؤال قد يفيدنا في تفهّم مسار الطريق إلى إيقاف هذه الحرب واستدامة السلام من بعد.
ولعلّ كاتب هذه السطور يستهلّها بالتذكير بتصريحات كثيرة ذهبت إلى أن حرب 15 إبريل (2023) وقعت بسبب الاتّفاق الإطاري، وقد وُجّهت تلك التصريحات من قيادات رأي وسياسيين وصحافيين في مجموعة القوى المدنية الثورية، على أساس أن الحرب وقعت بسبب رفض القوى الإسلامية ذلك الاتفاق، الذي يحرم الإسلاميين من المشاركة السياسية، عدا مشاركة رمزية لمجموعة من حزب المؤتمر الشعبي اعتُبرِت ضمن قوى الانتقال. وفي مقابل هذا التوجيه، تبنّى الإسلاميون والجيش السوداني سرديةً ترى أن الحرب وقعت بسبب الاختلاف بشأن الترتيبات الأمنية التي تضمّنها ذلك الاتفاق. وبسبب الاختلاف فيما يتعلق بتبعية قوات الدعم السريع إلى رئيس الوزراء عبد الله حمدوك (المستقيل)، لا لرئيس الجيش الجنرال عبد الفتّاح البرهان، الذي تخوّل له النظم العسكرية توحيد السيطرة والقيادة على القوات المسلّحة والقوات المساندة لها تحت إمرته. وهي المسألة الخلافية الأكثر أهميةً، التي عجّلت بمغامرة رئيس قوات الدعم السريع (محمد حمدان دقلو) لفرض الأمر الواقع على الجيش باستلام مطار مروي قبل محاولة اغتيال قائد الجيش واختطاف الدولة. وبناء على ذلك، تسبّب فشل تلك المحاولات في إشعال هذه الحرب التي تعدّ الأخطر في تاريخ البلاد.
لا يبدو، عند التدقيق، أن هناك خلافاً جوهرياً بين السرديتَين، فقد وقعت الحرب بسبب أن عسكرة السياسة (بلغت ذروتها في إبريل 2023) وقد اتخذت هذه المرّة مساراً غير الذي عُرفت به سابقاً، عندما كانت القوى السياسية تكتفي بالتنافس على اختطاف الجيش عبر انقلابٍ يُعلي من القيادات الموالية لها في قمّة هرم المؤسّسة العسكرية، كما في حالة إبراهيم عبّود وجعفر النميري وعمر البشير. فعلى الرغم من ظهور حركات تمرّد على المركز في ظلّ الأنظمة السياسية المتعاقبة، العسكرية منها والمدنية، في حقبة ما بعد الاستقلال، إلا أن تمرّد 15 إبريل تمثّلت فكرته في السيطرة على المركز وعلى السلطة السيادية ذاتها، لا على إقليم من الأقاليم أو ولاية من الولايات البعيدة، للضغط على المركز بمطالب واشتراطات، مهما علا سقفها. هذا هو الفارق الأكثر أهميةً بشأن خطورة هذه الحرب. ولهذا هو يتطلّب تدبيراً وتفكيراً مختلفين، إن أردنا لهذه الحرب أن تكون آخر حروب السودان، وأن يتجنب الوطن مزيداً من التشظّي.
دعا كاتب المقال، من الأيام الأولى لهذه الحرب اللعينة، القوى السياسية كافّة، من على شاشة التلفزيون العربي، في إبريل/ نيسان 2023، للاصطفاف مع الجيش دبلوماسياً وإعلامياً وسياسياً، فهو من مؤسّسات الدولة رغم عيوبه المعلومة، على اعتبار أن الطرف الآخر قوات في رأس قيادتها أفراد تربطهم علاقة رحم وعصبية دم. وفي مشهدٍ كهذا، فإن خسارة الجيش تعني خسارتنا جميعاً للوطن، من ناصر الجيش ومن عاداه، في حين أن انتصار قوات التمرّد لا يعني غير أن تستحوذ أسرة دقلو على السلطة بقوة المدفع، وأن تسوس الناس بالسياط والخيزران وتطلق يدها في القتل لأتفه الأسباب (أو بلا سبب)، بالقسوة والوحشية التي ما زالوا يمارسونها في هذه الحرب على العزّل.
الوقوف مع الجيش وقوف مع الدولة لوقف هذه الوحشية، ولذلك وجب مناصرة المؤسّسة العسكرية من غير تكسّب سياسي وبلا أجندة ضيقة، فمن غير ذلك لن يربح السودانيون الوطن ولا الأمان. لكن كيف يكون ذلك، خاصّة إذا علمنا أن جمعاً غفيراً من قواعد القوى المدنية الداعمة للاتفاق الإطاري يتخوّف من عودة الإسلاميين بعد الحرب من بوابة الجيش، لما بينه وبين تلك القوى، التي حكمت باسم مؤسّسته الدولةَ ثلاثة عقود احتكرت فيها السلطة وإدارة الثروة وبقيّة المؤسّسات. ويبدو أن الارتباك في التعبير عن هذا التخوّف أوقع القوى المدنية في حبال مساندة قوات الدعم السريع، بقصد أو من غير قصد، ما فاقم من أزمة الحرب، وعقّد رواياتها، وعسكر خطاب الأطراف المدنية ذاتها.
في هذا السياق، يمكن أن نفسّر معاداة القوى المدنية السياسية وحلفائها في الداخل والخارج للجيش، على اعتبار أنهم يدركون أهمية هذه المؤسّسة بالنسبة لأنظمة الحكم غير الملكية في هذه المنطقة من العالم، حيث يتحكّم فيها الجيش بشكل مباشر؛ في الجزائر ومصر وسورية، ويمكن أن نضيف تونس ومن قبل اليمن، فالسودان ليس استثناءً. إذا أدركنا ذلك، نفترض أن منع هذا التجاذب بشأن حيازة السلطة عبر عسكرة السياسة يبدأ بالتفكير في مسار ثالث توافقي، تجد فيه الأطراف كلّها، الأيديولوجية منها والمناطقية، حظّها من الحضور في المؤسّسة العسكرية والسيادية، حتى لا نظلّ نراوح مكاننا، نخرج من أزمة إلى أزمة أعقد منها، ومن حركات تمرّد على المركز إلى انفصال في الجنوب، ومن حرب في دارفور إلى شدّ أطراف البلد وإفراغ سلطة المركز، ومن حراك ديسمبر (2018) إلى الاتّفاق الإطاري، ثمّ حرب 15 إبريل. ولا ندري ماذا ينتظرنا إن سرنا في الأخطاء السابق زاتها.
وإن جاز اقتراح خطوة عملية في هذا المسار الثالث (البديل) للتداول حول جدواها، يدعو كاتب المقال مجلس السيادة إلى تشكيل مجلس رقابي مناطقي، يعكس مكوّنات أقاليم البلد كافّة، من غير انحياز لمجموعة على حساب أخرى، للمشاركة الفاعلة في إقرار صيغة لإيقاف الحرب وتقرير مستقبل القوات المتمرّدة؛ وأن يتطوّر هذا المجلس الرقابي ليكون بمثابة برلمان انتقالي يُشرف على عملية اختيار رئيس الوزراء لفترة انتقالية محدّدة المدّة والمهام، على أن يتم اختياره من بين عدد من المُرشَّحين الذين يقترحهم أعضاء المجلس الرقابي ذاته من أهل الكفاءة والنزاهة بالتوافق مع مجلس السيادة، وأن يكون من مهام المجلس الرقابي وضع ضوابطَ دستوريةٍ حاكمةٍ (بناء على تجارب الأمم والخبرة البشرية) للعلاقات العسكرية المدنية، التي كانت محلّ نزاع حادٍّ عشية وقوع الحرب في 15 إبريل (2023).
وبعد، انتهى كاتب هذه السطور إلى هذا الرأي بناءً على تقدير أن التوافق عملية تعاقدية في الأساس، وهو الأصل في استقرار الأوطان، وهو وإن كان شبه متعذّر بالنظر إلى التجاذب السياسي العدمي حول هذه الحرب، والمعبّر عنه في الفضاء العام وفي منابر السياسيين المتشاكسين، فإنه قضية لا تنفصل عن عملية التراضي على الدستور واحترامه، لأنّه مرجعية السيادة ومصدر ما دونها من تشريعات. ولذلك يجب أن تحتلّ عملية التراضي هذه سلّم أولويات إيقاف الحرب بالسياسة. إذ يبدو جلياً أن الاختلاف حول الجيش ما هو إلا عرض لأزمة فلسفة الحكم ووجهة العملية السياسية التي أرهقت البلاد. وقد كان الأمل بعد ديسمبر/ كانون الأول (2018) أن يُدار تدبير تلك المعضلة بمدارسة دستور 2005، والتفاكر حوله، في موائد للحوار السياسي والمجتمعي (مستديرة أو مستطيلة) تجنّباً للحرب وللنزوح وللقتل والدمار والخراب. أمّا وقد وقع ذلك كلّه فعلينا أن نتواضع على حلّ لأسّ الإشكال ذاته، عسى أن ينصلح حالنا، ونعتبر بقول الحقّ سبحانه وتعالى: “لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ”، نسأل الله الهداية والرشد.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.