عبد الله علي إبراهيم يكتب: الذكرى 126 لمعركة كرري: في الحرب يستحيل التنبؤ بالماضي
سئل متخصص في شأن ما أن يتنبأ بما سيحدث من جملة معطيات ما. فقال إن سجله في التنبؤ مؤسف، بل إنه لم يعد يتنبأ حتى بالماضي. وبدا أن التنبؤ بما يعنيه ماضي السودان في حربه القائمة مما يتعذر التنبؤ به أيضاً.
مرت في الثاني من سبتمبر (أيلول) الجاري الذكرى 126 لمعركة كرري التي قضى فيها الجيش الإنجليزي- المصري على دولة المهدية في السودان (1885-1898). وقال ونستون تشرشل الذي رافق الحملة مراسلاً حربياً شاباً في كتابه “حرب النهر”، عن فرط بسالة المحاربين السودانيين إنهم لم يهزموهم في كرري، بل حطموهم ناظراً إلى البون الشاسع في تسليح الطرفين. بل ومثل تشرشل انتظام جيش المهدية وحركة فرقه الأنيقة في الميدان بلوحة “بايو تابستري” التي خلدت وقائع غزو النورماند لإنجلترا في 1066.
تمتح الكتابات العامة عن تاريخ المهدية من ثلاثة كتب هي “المهدية والسودان المصري” (1891) لفرانسس ريقنالد ونجت، رئيس قلم استخبارات الجيش المصري وحاكم السودان العام لاحقاً، و”السيف والنار في السودان” (1898) لرودلف سلاطين الذي كان آخر حكام دارفور تحت الحكم التركي- المصري وأسرته المهدية، فأسلم لغرضه، وألزمته بما عرف بـ”فروة” الخليفة عبدالله، أي أن يكون حاضراً عند بابه ما كان الخليفة في ديوانه، ثم تمكن من الهرب إلى مصر في 1895. أما الكتاب الثالث فهو “10 سنوات في أسر المهدي” (1891) للقس جوزيف أوهروالدر. وكان ونجت من وراء تحرير كتابي سلاطين وأوهروالدر.
وكانت قيمة هذه الكتب الباكرة لتاريخ المهدية موضوع نقد مهني من بيتر هولت الوثائقي الأول في ديوان الدولة الإنجليزية بالسودان الذي أشرف على فهرسة وثائق المهدية وتبويبها. وكتب “الدولة المهدية في السودان” (1977) الذي لا يزال المرجع الذي لا يعلى عليه.
وخلص هولت إلى أن الدراسات عن المهدية في مصر وإنجلترا لم تبذل إلا العفو في توطينها في سياق التاريخ السوداني والأفريقي والإسلامي على رغم أهميتها التاريخية الجوهرية للسودان. ونعى تحرير ونجت لكتابي سلاطين وأوهروالدر. فقال إنهما في الإنجليزية غير ما هما في الألمانية بفضل ترجمة ونجت وتحريره لهما. فلم يعد الكتابان بالنتيجة مصدرين مستقلين للمعلومات عن المهدية كما ينبغي بقدر ما هما تلميع تلفيقي لم يضف كثيراً لكتاب ونجت نفسه. فتبنى في ترجمتهما أسلوباً إثارياً في لغة عاطفية للغاية ومبالغ فيها.
ولعب ونجت في الكتابين على شعواء الإهانة والغضب الذي أحسه البريطانيون لمقتل الجنرال تشارلس غردون علي يد المهدية في قصر الحاكم العام بالخرطوم الذي يؤرق ضميرهم لأنهم ضنوا عليه بالفرج الذي انتظره ولم يأت.
وخلص هولت إلى أنه ينبغي اعتبار هذه الثلاثية “دعاية حرب” لـ”استعادة” السودان من المهدية الموصوفة بأنها دولة استبداد ديني شرقي منقطع النظير. ولم يتورع ونجت عن كشف غرضه من الكتب وحث العالم المتحضر أن حتماً تقف أوروبا وبريطانيا غير مكترثة حيال فتك الخليفة عبدالله وتحطيمه أهل السودان. بل ورغب سلاطين أن يكون للتفاصيل الشقية التي توافر عليها في كتابه عن استبداد نظام الخليفة عبدالله أهمية كبرى “عندما يجد وقت العمل، وعندما يبحث العاملون بحثاً جدياً في خلاص المغلوبين على أمرهم في السودان، وعندما يسمح الله باستخدام معلوماتي ومجهوداتي في سبيل إبادة الظلم الدرويشي، وإزالة حكم سيدي الجائر وعدوي (الخليفة) عبدالله، الذي سيظل ألد أعدائي طول الحياة التي أحياها في الدنيا”.
وتقف حالة استعادة ماضي المهدية مثلاً في تعذر التنبؤ بالماضي التي قال بها الرجل الذي جئنا بخبره في أول المقال. فكانت أكبر مظاهر اجترار تاريخ المهدية إلى الحاضر ما اتصل بالمعركة الدائرة منذ أبريل (نيسان) 2023 حول كسب الخرطوم.
من ضمن ما ذكرت المعركة به كما لا مهرب حصار المهدية لمدينة الخرطوم، حاضرة الدولة التركية- المصرية، وسقوطها في 1885. فتبنى طرفا المعركة الحاضرة ذلك السقوط بما يخدم قضيتهما ليومهما. فتبنت قوات “الدعم السريع” الفتح التاريخي كسابقة لإهلاك دولة 56 التي استأثرت بها صفوة النيل الشمالي في قولهم من دون غيرهم.
فالمهدية هنا قدوة. واكتملت عناصر المطابقة بحقيقة مجيء محمد حمدان دقلو إلى غزو الخرطوم في جند غالبه من “شعب البقارة” الذي كانت له الغلبة في دولة المهدية. والمفارقة هنا أن كثيراً من أنصار “الدعم” سبق أن كان لهم رأي سلبي في المهدية حين كانوا في معارضة الإنقاذ وعلى بينة الكتب الثلاثية المبغضة لها. فرأوا في دولة الإنقاذ الدينية إعادة حرفية للمهدية بجامع الثيوقراطية في كليهما.
وتجسد هذا التطابق حتى في الإبداع الروائي. فحصلت رواية “شوق الدراويش” لحمور زيادة، التي دارت دراماها في الدولة المهدية، بجائزة نجيب محفوظ التي ترعاها الجامعة الأميركية بالقاهرة في 2015.
وميز المحكمون للجائزة استدعاء الرواية لماض من التطرف الديني في المهدية لا يزال حاضرنا يرزح من تحته. فقال أحد المحكمين في تزكية الرواية إنها “تجسيد للمشهد الحالي في المنطقة حيث تعم الفوضى نتيجة للتطرف الديني”.
ومن رأي عبدالرحمن الغالي القيادي في حزب الأمة معقل أنصار المهدي التاريخي، في كتابه “المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدراويش” (2016) أن الرواية دعاية ضد المهدية في ثوب جديد. فهي، في قوله، استوحت كتاب القس أوهروالدر سجين المهدية الذي كتب عن تجربته في سجنه. فجعلت حتى غلافها هو نفسه غلاف كتاب أوهروالدر. وأخذت بطلة الرواية نفس طريقه في الهرب باليوم والتاريخ ونوع الصحبة.
وأخذت الرواية بالنص عبارة لام فيها أوهروالدر الجنرال غردون لتساهله مع أسر من انضموا للمهدية ممن وصفهم بالوحوش المتعصبين. فبكل تأكيد، في قول أوهروالدر، كان يجب أن يلقى هؤلاء المتعصبون المهدويون المنافقون معاملة مختلفة جداً من الأوروبيين المتحضرين. وتجد صدى العبارة في بطلة رواية “شوق الدراويش” حين تقول “إن هؤلاء الوحوش لا يمكن إلا أن يعاملوا بالكراهية والتوحش الذين هم جديرون به”. فخرجت الرواية عن المهدية وفي ذهنها نظام الإنقاذ أو أنها احتاجت للمهدية برماً بنظام الإنقاذ. وهذا جائز متى استقل الكاتب بمصادره لا يرسى حيث يمسي.
أما طرف الحرب الآخر الواقف مع القوات المسلحة فاسترجع بهجوم “الدعم السريع” وخراب الخرطوم على يده ما أشاعته الكتب الثلاثة وبالذات كتاب “سلاطين المغرب” واسع الانتشار نسبياً.
كما جاء إلى هذه السلبية حيال المهدية كثير من السودانيين بما تواتر في أوساط أهلهم من احتقان قديم على دولة المهدية. وكان خليفة المهدي على الدولة، الخليفة عبدالله، قد مكن لأهله التعايشة ومن أسرته خصوصاً من شعب البقارة في الدولة وهجرهم إلى أم درمان، عاصمة المهدية، بالأمر.
ومن ذكر تلك الهجرة التي لا تنضب معركة المتمة التي جرت أول يوليو (تموز) 1891. والمتمة هي حاضرة شعب الجعليين الشمالي على ضفة النيل الغربية من مدينة شندي وعلى بعد 160 ميلاً شمالي أم درمان. فأراد الخليفة إخلاء البلدة لوضعها الاستراتيجي ليرتكز فيها بعض جيشه وهو يعد لمواجهة الجيش الإنجليزي المصري الذي خرج للقضاء على المهدية.
واعترض أهل المتمة على ترحيلهم. واحتربوا مع جيش المهدية فانهزموا وصودرت أموالهم وسبيت نساؤهم. وبقيت ذكرى معركة المتمة وشماً لا ينمحي في ذاكرة السودان النيلي.
وتجد الإسلاميين ضمن هذا الطرف المناصر للقوات المسلحة. وتستغرب كيف قلبوا ظهر المجن للمهدية هكذا وهي من كانت بينتهم التاريخية في صلاح البلد بالإسلام جهاداً لتحريره الوطني ومثلاً شروداً في أوبة باكرة للدولة للدين. وتستغرب أكثر أن يكون للإسلاميين هذا الرأي السلبي في المهدية، وقد كان خصومهم يرونهم مجرد مهدية جديدة مستبدة أيضاً كما رأينا.
يبدو أن الماضي عندنا لا يريد أن يخلد إلى ماضويته. فهو ماض ينهض “بعاتي” ويأخذ بخناقنا لأننا لم نوفق بعد في الجدوى من دونه. فقعدنا من دون ترحيله من يومنا إلى رحاب التاريخ لتقع دراسته كأنه “بلد أخرى” كما يقولون. ولهذا صح القول، إن ماضي المهدية مما يصعب التنبؤ به.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.