باج نيوز
موقع إخباري - أخبار اراء تحليلات تحقيقات بكل شفافية
taawuniya 1135*120

د. الشفيع خضر سعيد يكتب: السودان وعملية «شريان الحياة» الثانية

212

الموت بدانات المدافع وقنابل الطائرات، الموت نتيجة الجوع وانعدام الغذاء ومياه الشرب، الموت بسبب تمكن الداء وغياب الدواء وانهيار صحة البيئة، والموت من جراء هيجان الطبيعة المدمر المتلاف….، كلها من مضادات الحياة التي أنشبت مخالبها في جسد الوطن والمواطن، فصار السودان عنوانا للفناء وماعونا للهلاك. وكلها من صنع الإنسان، ولكن ليس أي إنسان، بل المتسبب في حرب استطالت وتمدد حريقها مساحة وعمقا وتنوعا، مفرزةً أكبر الكوارث الإنسانية في زمننا المعاصر، لذلك فإن الأولوية العاجلة اليوم، والتي يجب أن تُركز كل الجهود حيالها، هي التصدي لهذه الكارثة الإنسانية.
لكن السؤال الرئيسي هو: هل يمكن مخاطبة هذا الوضع الكارثي قبل التوصل إلى وقف لإطلاق النار؟ وهل يمكن انسياب المساعدات الإنسانية دون أن تُنهب ويتعرض العاملون عليها للقنص وهجمات المتقاتلين؟ الدكتور صلاح الأمين، الخبير الأممي السوداني الذي عمل طويلا ممثلا لهيئات الأمم المتحدة المعنية بدرء الكوارث في عدد من المناطق الملتهبة في العالم، يجيب بنعم على هذا التساؤل، وقد أتحفنا بإجابته في رسالة رأينا مشاركتها مع القارئ في هذا المقال.
يقول الدكتور صلاح: قبل أكثر من 35 عاما، خططت ونظمت وأدارت الأمم المتحدة وشركاؤها، بالتنسيق بين حكومة البشير وقيادة الجيش الشعبي لتحرير السودان (قرنق) ما عرف آنذاك بعملية «شريان الحياة» والتي استطاعت توصيل المساعدات الإنسانية من غذاء وماء وصحة وتعليم وحماية للملايين في جنوب السودان، واستطاعت الوصول لمناطق نائية جدا عبر المطارات الترابية التي شيدتها العملية في تلك المناطق بعد ان ظن الكثيرون أن الحرب وإنسانها وقتها قد أصبحا نسيا منسيا.
وفكرة شريان الحياة بدأت بخدمة بسيطة قدمها فريق الأمن الاقتصادي التابع للجنة الدولية الصليب الأحمر، وهو الجهة المسؤولة عن توفير المساعدات الاقتصادية، وكان يعمل في منطقة حدودية بين السودان وكينيا، حيث كان يقود الفريق طبيب بيطري، وقام بتقديم خدمة تطعيم الماشية في المنطقة، ووجدت الخدمة ترحابا كبيرا من المواطنين. ثم تطورت العملية واستمرت 15 عاما لتصبح أكبر وأميز عملية تنسيق إنساني في تاريخ الاستجابات للعمليات الإنسانية في العالم حتى الآن. والعمليات الإدارية واللوجستية لعملية شريان الحياة كانت تدار من منطقة لوكوشوكيو في شمال كينيا قرب الحدود السودانية، حيث وُقّع اتفاق بين حكومة الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان يسمح للطيران أن ينطلق في أيام محدودة في الأسبوع من مطار لوكشوكيو إلى داخل أراضي جنوب السودان، وكان يمثل الجانب السوداني فيه مفوضية العون الإنساني التابعة للحكومة، بينما يمثل الحركة الشعبية «الوكالة السودانية للإغاثة واعادة التعمير» منظمتها المختصة بالشؤون الإنسانية.

وبالنسبة لتوصيل المساعدات الإنسانية للمدنيين اليوم، حيث يتعامل المجتمع الدولي مع سلطتين متحاربتين، الجيش والدعم السريع، يتساءل الدكتور صلاح: هل سنشهد عملية «شريان الحياة» الثانية في السودان، وهل ستكون منطقة أدري هي لوكوشوكيو أخرى؟ أيضا يجيب الدكتور صلاح بنعم، ويقول إن إجتماعات جنيف الأخيرة أسفرت عن تفاهمات بين طرفي القتال تسمح بمرور قوافل المساعدات الإنسانية لمناطق الحرب. وأن تسريبات غرف المفاوضات المغلقة في جنيف، تؤكد أنه سمح فعليا بعبور قوافل مساعدات تابعة للمعونة الأمريكية، وبرنامج الغذاء العالمي، ومنظمة الصحة العالمية، عبر معبر أدري الحدودي بين السودان وتشاد، وقد تكون هذه العملية بمثابة مشروع تجريبي سيغري نجاحها المجتمع الدولي الإنساني بأن يخطط لعملية شريان حياة أخرى، خاصة وأن التسريبات شملت خريطة بها اقتراحات لبعض المعابر المقترحة من حكومة بورتسودان ومن الأمم المتحدة، ليست كلها معابر بين السودان وجيرانه، بل هناك معابر داخلية أخرى مقترحة بين مناطق سيطرة الجيش السوداني ومناطق سيطرة قوات الدعم السريع. ويتوقع الدكتور صلاح أن تتضمن الخطة معابر ومطارات أخرى من مدن مجاورة من جنوب السودان، وأن الحكومة في بورتسودان ستتمسك بحقها الدستوري، كحكومة أمر واقع، في إصدار شهادة أو إذن عدم الممانعة التي تسمح بتحرك المساعدات بموظفيها في الدخول للأراضي السودانية أو حتى التحرك داخل الأراضي السودانية، ويشير إلى أن ذلك بدأ فعليا عندما تمسك مجلس السيادة ببورتسودان، وبقرار منه، بإحتكار سلطة إصدار تلك الأذونات، بعد أن كانت تصدرها في السابق مفوضية العون الإنساني.
ومن ناحية أخرى، يقول الدكتور صلاح إن الدعم السريع أبدى استعداده بأن تتولى قواته حماية تحرك قوافل المساعدات بموظفيها وعمالها في مناطق سيطرته، لدرجة أن وفده المشارك في مفاوضات جنيف التقى بقيادات رفيعة في رئاسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر وطلب منهم تفعيل تفويض الصليب الأحمر المعروف في (تطبيق القانون الدولي الانساني) بأن يتم تدريب مقاتلي قوات الدعم السريع في المعرفة والالتزام بالقانون الدولي الإنساني وحماية قوافل المساعدات. ومعروف أن تلك التدريبات هي من صميم عمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، يقدمها لأطراف القتال في كل مناطق الحروب. لكن، يستدرك الدكتور صلاح وينبهنا إلى نقطة هامة جدا عندما يشير إلى أن العامل الأهم والأعظم في عملية شريان الحياة، ولكنه الغائب حتى الآن، هم المجتمعات المحلية على الأرض، والتي هي المستفيد الأعظم من عملية نقل وتوزيع المساعدات الإنسانية. لذلك، من المهم جدا أن تتمسك المنظمات الدولية الإنسانية بأن تكون المجتمعات المحلية هي من سيتم التنسيق معها في عملية توزيع تلك المساعدات وإيصالها للمستفيدين. ويمكن أن تنشأ شراكات مع منظمات المجتمع المدني في المدن والقرى والأحياء لضمان وصول المساعدات لمستحقيها. وبالإضافة إلى التدريب وورش العمل، والخبرات المستخلصة من مناطق ملتهبة أخرى غير السودان، ستستفيد المنظمات الدولية من الخبرات المتراكمة للمجتمعات السودانية المحلية في اقتسام اللقمة والدواء، بل وفي إدارة اقتصاديات الحرب وآليات التكيف التي حافظت على السودانيين أحياء حتى الآن.
ياترى، هل حديث الدكتور صلاح يبث أملا في هذا الأفق المظلم؟

نقلاً عن القدس العربي

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

error: