عماد البليك يكتب: “حرب العزلة” السودانية
هل قرأ قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان رواية “100 عام من العزلة”؟ وهل يمكن أن يكون نائبه في المجلس السيادي الحاكم في السودان فعلها؟
ليس من دليل على أية إجابة أقدمها هنا، لكن صورة الروائي الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز ستهيمن في الأفق بروايته الشهيرة التي نال بها أرفع جائزة أدبية في العالم، وهي نوبل في الأدب عام 1982.
كلاهما يتحدث عن حرب قد تستمر 100 عام استعداداً لمقاومة قد تمتد لأجيال لو أن ذلك حدث، إن مضينا إلى قرن من المعارك والحصار النفسي والأوجاع ستكتب رواية “العزلة الكبيرة” التي ستنتهي بتشريد شعب كامل وقد بدأ ذلك فعلياً، وإلا بماذا يمكن أن نسمي ما يحدث في السودان؟
أخيراً كان مراسل صحافي لصحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية غامر بدخول منطقة حرب، وشاهد مأساة ما يحدث في العاصمة السودانية وتحديداً في الجانب الغربي من الخرطوم، أم درمان، الذي سيبدو أكثر أماناً وأقل ترويعاً، لكن المشهد كان مخيفاً لأطفال يموتون بلا هوادة، أنين وعويل، ودماء على أرضية المستشفى المتهالك في بلد لم يبق به من عناية صحية كان يفتقدها في الأساس منذ ما قبل الحرب، والآن تعقد الوضع فليس الموت بآلة القتال فحسب، بل بالألم النفسي والعصبي والشرود الذهني وغيرها من ويلات بدأت تهز النسيج الاجتماعي.
وثمة كثير من القصص التي تُروى هنا، وقد نشرنا في “اندبندنت عربية” عشرات التقارير والتحقيقات حول ذلك من ارتفاع حالات الطلاق والمرض النفسي، وقبل ذلك انعدام الدواء وانهيار النظام الصحي برمته، ثم تتعقد أوجاع “حرب العزلة” مع مشهد الفيضانات والسيول وانهيار السد الأخير في أربعات بشرق البلاد قريباً من العاصمة البديلة بورتسودان، ليصعب توقع حجم تلك المأساة التي يكاد الإعلام سواء العربي أو العالمي متجاهلاً لها، أو جاهلاً بحجمها.
الصورة التي تقع على أرض الواقع أكبر مما يُعكس بعشرات المرات وهذا قول تقريبي، ولك أن تشاهد فيديو قصيراً بثه الجيش السوداني لمساحات ضخمة مغمورة بالمياه يكشف عن دمار وهلاك، فناء الزرع والضرع، ومشاهد موجعة يمكن رؤيتها كلما اقتربت عدسة الكاميرا إلى أسفل.
ما الذي يجري أو جرى في السودان؟
إذ تبدو الإجابة سهلة إلا أنها عسيرة على المرء، وبخاصة إذا كان عاش طفولته وصباه هناك، إذ شاطئ الذكريات والمتكأ، هذا الوطن الذي إن لم يُنتشل من هذه الحرب وأثرها المدمر سيصبح نسياً منسياً، يتقلب في الألم الذي لا شفيع له ولا بطل مثابراً وشجاعاً يقف متحدياً الغياهب ليقول “كفى” وهو يحمل لواء بروميثيوس ذلك الإله الإغريقي العملاق القادر على تغيير اتجاه الريح.
فيما يشبه الأساطير اليونانية أو المعتقدات باذخة الأسطرة التي ورثناها في تراثنا السوداني منذ القدم وقرأنا عنها في “طبقات ود ضيف الله” أعظم سجل في قروننا الوسطى المحلية لفترة الدولة السنارية (1505- 1820)، إذ تختل معادلة العالم المرئي والمشاهد بأم العين، سيكون للإنسان أن يقف أمام غربة الذات والآخر فيه، وهو يكرر السؤال ويبحث عن إجابة للمآل، ليتلاشى ويرتد كل مصير للخلاص متردياً أمام ناظريه، لتكون المحصلة هي الموت والخراب.
مقابل الحديث عن الأساطير والخرافات ومحاولة جعل الحياة سيريالية أو تفتقد للواقعية، ثمة واقع لا يمكن الفكاك منه يكون فيه الجرح غائراً، وحيث تتهاوى النفوس تجاه اللا شيء وهي تبحث فيه مظنة أنه سيحررها ذلك المتلاشي والغائب واللا حقيقي، فنحن في زمن الخرافة حقاً، فمن يصدق حجم ما يرى وما لا يرى أو يتوقع أو يشير إليه جهاز حاسوب صغير أو هاتف نقال، يشتغل على هوادة إرسال الأخبار العاجلة بخطف بصر وبصيرة، دون أن يكون له مقدرة نقل المشاعر المفقودة، وذلك هو الجزء الأكثر عسراً في تلك المعادلة واللعبة المنهكة.
إذا كنا في عالم مشتعل بالحروب والأزمات من أوكرانيا التي بدأت قبل عامين ونصف العام إلى غزة وقبلها “حرب العزلة” السودانية، يتشظى الصحافيون وهم يبحثون عن فهم الواقع وتسطير الحقائق إن وجدت، غير أن حرب السودان تبقى غامضة وعسيرة على الفهم حتى لأهلها، إذ يسألك عابرون تقابلهم في الشارع أو أماكن عامة أو زملاء عمل أيضاً، ما الذي يحدث ببلدكم؟ هل هو صراع سياسي على ثروة وجاه وسلطان؟ أم هي لعبة السلم والثعبان؟ أم أنها حرب هامش ومركز؟ أم صراع إثني؟ أم ماذا؟
كل الإجابات صحيحة وممكنة وقابلة للتصديق، وأيضاً كلها خاطئة لا تقدم دليلاً واحداً على فكرة الجشع الإنساني المثابر الذي يقف متحدياً فكرة الإنسانية ليجعل النار تزداد اتقاداً ويحكم منظور البقاء والرأفة، فإذا كان أهل غزة يتعاركون مع “عدو” على الجانب الآخر، أو كانت حرب أوكرانيا بحيثيات مدركة للمراقبين، فمن العدو في الحرب السودانية؟!
ذلك السؤال الذي ليس له من إجابة أمام السائل، إنه ظلم أولي القربي الذي تشتد مرارته وتبلغ غرابته ما لا يمكن احتماله أو تطريزه ولو في الأحلام العابرة والخاطفة بالوجع والظنون، وهي تحاول احتواء فكرة من يكون الإنسان وماذا تكون الإنسانية؟!
السودانيون أنفسهم في حيرة من أمرهم والمعني هنا غمار الموالي من الناس البسطاء الذين وجدوا أنفسهم وسط طواحين الموت وهم يفقدون كل ما أنفقوا العمر لأجله، وليس لك أن تتخيل القصة إلا أن تعيشها وهنا المأزق الأكبر، بل إن الرواة أنفسهم يصبحون غارقين في تيه لا يجعلهم يروون ما يحدث بالضبط، فقد تشوشت الرؤية وتاه السبيل وأصبح العقل غير قادر على التقاط المعنى، فمن أين تأتي المعاني والإدراكات في مثل هذه الأزمنة الشعواء؟
هي الحرب التي ينتظر أن تضع أوزارها الكبيرة في حين لا يبدو من سيناريو جلي للنهاية في ظل فشل المقاربات سواء المحلية أو الخارجية، التي حاولت وتحاول أن تقرب بين المتباعدين مع قانون اللعبة الذي يقول “كلما اقتربوا ابتعدوا”، في حين تتعقد الأزمة ويصبح القرار الأخير لشعب مهزوم ليس له من قدرة على الفعل في ظل غياب القدوة والمثل والطاقة الكبرى القادرة على تفجير الماء في الصخر، فهل كانوا كذلك من قبل؟ وما الذي حل بهم بالضبط؟ فمن أين جاءت هذه المصائر الغامضة والمعتمة التي تكسو هذه الأرض؟
لهذا، فإن تصوير الـ100 عام الذي ينافح به القادة ما يبدو كسيناريو خيالي وعبثي لا يكتب إلا في الروايات الأدبية الخالدة، لربما سينطبق على الواقع لو أن المسألة لم ينظر إليها بعين العقل وقلب مفتوح ولسان لا يصيبه عطب الكلام الحسن، وقبل ذلك أن يتحرك الضمير الإنساني والحي الذي ينظر إلى مصلحة عامة قبل خاصة، ليس له إلا أن يحل لحين من الزمن ثم يموت.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.