بحسب برنامج الغذاء العالمي، تقود حرب السودان إلى أكبر أزمة جوع في العالم. المجاعة التي يرصدها العالم تهدّد 25 مليون إنسان في هذه اللحظة، تصنّف المؤسّسات الدولية وضعهم بـ “انعدام الأمن الغذائي”؛ وهو عدم القدرة على الحصول بانتظام على ما يكفي من الغذاء. وبحسب تقارير دولية، يعاني 75% من أطفال السودان من الجوع.
لكنّ السلطة العسكرية في مدينة بورتسودان ترفض الاعتراف بما يراه العالم كلّه. وسخر وزير الزراعة السوداني من التقارير الدولية عن مجاعة تفتك بالبلاد، التي تأكلها الحرب، وزعم إنّ الموسم الزراعي ناجح، وأنّ البلاد تمتلك مخزوناً كبيراً من المحاصيل، وأنّ هناك فقط مشكلة تحتاج للمعالجة في توزيع الغذاء بسبب اعتداءات مليشيا الدعم السريع.
أما هذه المليشيا فتُحدّث العالم بلغته، وتعترف بالكارثة التي تشارك في صنعها، وتطلب المساعدة الدولية من دون أن تكفّ بنادقها لحظةً واحدةً عن قتل المزارعين وعمّال الإغاثة والمتطوّعين العاملين في تقديم الغذاء للمحتاجين.
ما وصف قبل شهور بأنه “استخدام لسلاح التجويع من طرفي الحرب”، تحدّث عنه بوضوح المبعوث الأميركي توم بيرييلو قبل أيام، فقال “إنّه ليس مُجرَّد انتهاك فاضح للقانون الإنساني الدولي من الجانبين كليهما، بل هو جبن. من المذهل أن نرى هذا الافتقار إلى الشجاعة والشرف من أشخاص لا يبدو أنهم يريدون أن يقاتلوا عسكرياً، بل يفضّلون استخدام النساء والأطفال الجائعين سلاحاً”.
تتوقّع تقديرات دولية موتَ 2.5 مليون سوداني من الجوع في نهاية الشهر المقبل (سبتمبر/ أيلول). يقول مدير المنظّمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتّحدة في السودان “نحن نرى الناس يموتون، والذين يمكننا الوصول إليهم لا نستطيع أن نفعل أيَّ شيء من أجلهم”. ولكن، لا ينظر الجيش إلى هذه التقارير والتحذيرات إلا في سياق المؤامرة العالمية ضدَّه. فهو يخوض حرباً، بحسب تصريحات قادته، ضدّ المجتمع الدولي كلّه. فالحرب في نظره بدأتها بعثة الأمم المتّحدة في السودان بتحريضها قائد “الدعم السريع” على التمرُّد، ثمّ تواصلت بتقديم الدعم العسكري والسياسي والمادّي والبشري من دول العالم والإقليم. برؤية مضطربة للعالم بهذا الشكل، يكون من الطبيعي أن يعتبر الجيش السوداني كلّ حديث عن الكارثة الإنسانية مؤامرةً ضدّه، لا سيّما أنّ تجاربه السابقة مع عمليات إغاثة إنسانية في الحرب الأهلية السودانية الثانية (1983 – 2005) جعلت عقيدته العسكرية تُفضّل منع دخول المعونات الإنسانية إلى مناطق سيطرة خصومه. وهو ما صرَّح به الفريق أول عبد الفتاح البرهان في فبراير/ شباط الماضي، أنّه لا دخول للمساعدات الإنسانية إلى أيٍّ من مناطق سيطرة “الدعم السريع” ما لم تضع السلاح.
وترى قوّات الدعم السريع في هذه التقارير كلّها فرصةً لابتزاز خصمها، الذي يرفض المبادرات الدولية، ويتعنّت في تمرير الإغاثة علناً، ويُوزّع الاتهامات للجميع. فتحرص المليشيا، التي تشنّ اعتداءات يومية على مناطق الزراعة في وسط السودان، على إعلان موافقتها على كلّ مُبادرةٍ، والترحيب بكلّ مساعدةٍ، ومدّ اليد للجميع للتعاون من أجل إنقاذ الجياع. تفعل ذلك، وهي تواصل نشر المجاعة بتدميرها المشاريعَ الزراعية وتهجير المزارعين.
ما بين التعنّت والمراوغة، تتعلَّق أرواح سودانية كثيرة لا تعلم ماذا ينتظرها. لذلك، قد يكون قبول السلطة العسكرية، بعد محادثة بين البرهان ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، بفتح المعبر الحدودي مع دولة تشاد لدخول المساعدات، هو أوّل بادرةِ إنقاذٍ لمواطني غرب السودان. فالمساعدات الإنسانية التي مُنِعت من الدخول زمناً طويلاً قد تحمل أملاً في الحياة لمن استطاعوا المقاومة حتّى هذه اللحظة. أمّا الذين ماتوا جوعاً قبل أن تصل إليهم الإغاثة التي عَلِقَتْ في الحدود تنتظر توافق المتقاتلين أشهراً فلن يتذكّرهم إلا ذووهم. فهم مُجرَّد أرقام في الصراع.
الذين بقوا أحياءَ ينتظرون وصول قوافل الإغاثة إليهم. لكنّ هذا ليس مُؤكَّداً، فبعد موافقة السلطة العسكرية لا بدَّ من التزام “الدعم السريع” بعدم الاعتداء على القوافل. وهو التزام لا يثق أحد أنّه سيحدث، لكن لا مفرّ من انتظاره.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.