فيصل محمد صالح يكتب: مفاوضات جنيف… بين التفاؤل والحذر
أصبح التفاوض في منبر جنيف أمراً واقعاً، وستذهب الوفود السودانية إلى هناك في غضون أيام قليلة، وهذا أمر يبعث على التفاؤل الحذر، وليس ثمة تناقض في هذا التعبير. التفاؤل سببه أنه وبعد عشرات اللاءات والمواقف المتناقضة والصيحات والتصريحات العنترية، تحقق ما ظلت قلوب السودانيين وآمالهم تطمح إليه، أن يتجه طرفا الحرب للجلوس للتفاوض لوقف الحرب، أما الحذر فمبعثه رفع سقف التوقعات وتصور أن أياماً قليلة من التفاوض ستنهي الحرب، وهو توقع متعجل وغير واقعي إن لم يحدث فقد تعم روح الإحباط والخيبة.
الأمر الواقعي الذي يجب أن يصحب التفاؤل هو أن التفاوض سيكون ماراثوناً طويلاً ومعقداً، وسيحاول طرفا الحرب أن يضعا شروطاً وإملاءات كثيرة، ويعلنا مواقف تحاول أن تجير التفاوض لمصلحة أي منهما، وقد يحتاج الأمر إلى جولات متعددة، وضغوطات داخلية وخارجية حتى يمكن التوصل لاتفاق معقول لوقف إطلاق النار وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، في المرحلة الأولى، ثم تتوالى الحوارات حول التفاصيل الأخرى.
المؤشرات على أن الطرفين سيذهبان للتفاوض كانت كثيرة ومتنوعة، وقد أشرنا إليها في عدد من المقالات السابقة، ولم تكن تعبيراً عن أماني شخصية ولا قراءة فنجان، بل تجميع معلومات وحوارات، ثم قراءة حقيقية للواقع الميداني ومآلاته.
الجديد الآن هو أن كثيرين ممن كانوا يقودون حملة الرفض للتفاوض، ويوزعون صكوك الوطنية على أنفسهم، واتهامات الخيانة والعمالة على غيرهم من رافضي الحرب، قد أعادوا حساباتهم، أياً كان السبب قناعات أو تعليمات، وبدأوا يتحدثون عن أن التفاوض مرحب به وهو أمر حتمي، وغيرها من العبارات التبريرية، وليس مطلوباً منهم غير الاستمرار في دعم العملية التفاوضية اتساقاً مع موقفهم الجديد، وبنفس الحماسة التي دعموا بها حالة الحرب.
واحدة من أهم النقاط التي يمكن أن تكون عائقاً في التفاوض بسبب حملة تضليل لازمتها هي التوصيفات المتعددة لـ«اتفاق جدة» الذي تم توقيعه في مايو (أيار) من العام الماضي. فبعد ما تم الإعلان عن أن هذا الاتفاق سيكون منطلق التفاوض، خرجت مرة أخرى بعض الأصوات لتصور أن تطبيق هذا الاتفاق سيكون انتصاراً لطرف على الآخر، وهو توصيف مضلل.
هذا الاتفاق كان جزءاً من اتفاق الهدنة التي لم تطبق، وهو فعلاً رتب التزامات على طرفي الحرب لم يلتزم بها كلاهما، والسبب في ذلك أنه كان أقرب لإعلان المبادئ، يحتاج لجولات أخرى حتى يصبح اتفاقاً قابلاً للتنفيذ. لم يفصل الاتفاق في كيفية تنفيذ هذه الالتزامات والآلية التي ستتولى متابعة ومراقبة عملية التنفيذ.
تم التوقيع على الإعلان بعد أربعة أسابيع من بدء الحرب، وقد جاء في مقدمة تمهيدية وثلاثة شروط و21 نقطة التزام للطرفين. أهم نقطة في المقدمة تقول: «وندرك أن الالتزام بالإعلان لن يؤثر على أي وضع قانوني أو أمني أو سياسي للأطراف الموقعة عليه، ولن يرتبط بالانخراط في أي عملية سياسية». هذا النص يوضح بجلاء أنه مجرد إعلان نوايا، كان يفترض أن تتبعه خطوات لتحويله لبرنامج عمل يحقق الأهداف المرجوة منه.
النقطة المهمة هنا، وأنا أنقلها بكاملها من مقال سابق لي في مايو الماضي، هي المادة «2-ج» التي تقرأ «اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنب وتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين، مما يهدف إلى إخلاء المراكز الحضرية بما فيها مساكن المدنيين، فعلى سبيل المثال لا ينبغي استخدام المدنيين دروعاً بشرية». هذه المادة تخاطب آمال وأحلام مئات الآلاف من السودانيين الذين هجروا منازلهم وأقام فيها أفراد من «قوات الدعم السريع»، أو صارت جزءاً من تحصينات عسكرية لطرفي الحرب. نص المادة الحالي مقروناً بالنقاط التي وردت في المقدمة قد تعني، حتى لو تم تنفيذها بشكلها الحالي، أن يخرج محتلو المنازل منها، لكن من دون تحديد نقاط تجميع متفق عليها، بما يعني أنهم قد يخرجون من المنازل والمواقع المدنية والخدمية ليعسكروا أمامها..!
اتفاق جدة يصلح أن يكون أساساً لإخلاء المناطق المدنية، من منازل وأسواق ومواقع خدمية من المظاهر العسكرية، لكن ذلك يحتاج لاتفاق متكامل لنقاط تجميع القوات العسكرية كما يحتاج لآلية للمتابعة والمراقبة بسلطات تنفيذية وحماية، وهذا ما يجب أن تتجه نحوه المفاوضات بشكل مباشر.
التفاؤل مطلوب والحذر كذلك، ومواصلة حملات الضغط والتوعية بأهمية وقف الحرب وتحقيق السلام واجب وفرض عين.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.