أمجد فريد الطيب: مؤتمر باريس يذكّر بالكارثة السودانية… فهل تثمر الجهود الدولية؟
في 15 أبريل/نيسان 2024، وبالتزامن مع الذكرى السنوية الأولى لاندلاع الحرب في السودان، احتضنت العاصمة الفرنسية باريس، وبتنظيم مشترك من الحكومتين الفرنسية والألمانية والاتحاد الأوروبي ثلاث فعاليات مهمة متعلقة بالسودان. كان أبرزها وأهمها هو المؤتمر الدولي الإنساني للسودان والدول المجاورة، والذي هدف إلى جمع تعهدات تمويل من الدول المانحة المشاركة لتغطية عجز ميزانية العون الإنساني للسودان بعد اندلاع الحرب ومناقشة عوائق وصول الإغاثة الإنسانية وكيفية دعم المنظمات القاعدية العاملة في مجال تقديم الإغاثة.
وبحسب الورقة المفهومية والدعوة إلى المؤتمر، جاءت أعماله كمواصلة لجهود مؤتمر إعلان التبرعات للسودان الذي انعقد في جنيف في يونيو/حزيران 2023، والاجتماع رفيع المستوى حول الاستجابة الإنسانية في السودان الذي عقد في نيويورك في سبتمبر/أيلول 2023، ومؤتمر القضايا الإنسانية الذي انعقد في القاهرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2023. وكذلك جرى على هامش هذا المؤتمر حدثان آخران: الأول هو ندوة المجتمع المدني السوداني التي انعقدت في “معهد العالم العربي” في باريس، وضم عددا من السياسيين السودانيين بمختلف مشاربهم في نقاش حول مجريات الحرب وآفاق السلام في السودان، وهو ما سنتحدث عنه بتفصيل في مقال لاحق. أما الحدث الآخر فكان الاجتماع الذي انعقد في وزارة الخارجية الفرنسية للمبعوثين الدوليين المعنيين بالسودان لمناقشة تنسيق جهود المجتمع الدولي بخصوص الأزمة السودانية وهو شأن آخر سنتناوله بالتفصيل.
تعهدات بـ2.1 مليار دولار
نجح المؤتمر الإنساني في جمع تعهدات من الدول المشاركة بإجمالي 2.1 مليار دولار وهي تعهدات لو تم تنفيذها ستساهم في تغطية جزء مقدر من ميزانية المعونات الإنسانية لعام 2024، والتي تبلغ 4.1 مليار دولار بحسب ما قدرته وكالات الأمم المتحدة في فبراير/شباط 2024. لكن هذه التعهدات ليست التزامات مضمونة بطبيعتها، وهي حتى الآن مجرد كلام في الهواء.
كان تمويل العون الإنساني للسودان قد شهد خذلانا كبيرا من المجتمع الدولي منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023. ففي العام 2023 أصبح تعداد المواطنين المحتاجين إلى المعونات الإنسانية بحسب إحصاءات الأمم المتحدة 24.7 مليون مواطن وبالمقارنة مع العام 2022 والذي كان تعداد المحتاجين إلى المعونات الإنسانية فيه 14.3 مليون مواطن. ونجد أن نسبة الارتفاع في الحاجة الإنسانية كانت 72.7 في المئة، ولكن مقابل هذه النسبة كانت الزيادة في التمويل الفعلي لأنشطة الإغاثة الإنسانية في السودان بنسبة 13.8 في المئة والتي ارتفعت من 1.12 مليار دولار أميركي في 2022 إلى 1.27 مليار دولار عام 2023. وبحسب إحصاءات المحتاجين. وتربعت الكارثة الإنسانية في السودان في المرتبة الأولى لأسوأ الكوارث الإنسانية في العالم بحسب تعداد المحتاجين للمعونة الإنسانية، حيث شهد عام 2023 في السودان حاجة 24.7 مليون مدني إلى مساعدات إنسانية، مقارنة بـ21.6 مليون شخص في اليمن، و17.6 مليون شخص في ميانمار، و5.2 مليون شخص في هاييتي. ولكن، لم يتم تقديم أي نوع من أنواع الإغاثة الإنسانية إلا إلى 5 ملايين شخص في السودان، وهو ما يمثل 20 في المئة من المحتاجين، وذلك بحسب إحصائيات الأمم المتحدة، فيما تضع المسوحات التي أجرتها منظمات عالمية أخرى مثل منظمة إنقاذ الطفولة نسبة التغطية في 16 في المئة. وهذه تعتبر أضعف نسبة تغطية للاحتياجات في الكوارث الإنسانية حول العالم. وكما كانت الميزانية المطلوبة للمساعدات الإنسانية المنقذة للحياة في السودان عام 2023 هي 2.57 مليار دولار، ولكن لم يتجاوز التمويل الفعلي لهذه الميزانية 1.27 مليار دولار بحلول نهاية العام، وهو ما يمثل 50 في المئة من إجمالي الميزانية المطلوبة.
الإيفاء بهذه التعهدات على أهميته، ليس هو التحدي الوحيد الذي يواجه انسياب الإغاثة الإنسانية للمحتاجين لها في السودان. فهناك العواقب البيروقراطية التي يضعها الجيش السوداني في مناطق سيطرته. فرغم سماح الحكومة السودانية بعبور المساعدات الإنسانية من دول تشاد وجنوب السودان ومصر في مطلع مارس/آذار المنصرم، إلا أنها لا تزال تضع قيودا واشتراطات بيروقراطية وإجراءات موافقة مطولة لجميع أنواع العمل الإنساني. وتحتاج المنظمات غير الحكومية إلى اجتياز إجراءات معقدة والحصول على الكثير من التصاريح من مختلف الوكالات الحكومية السودانية قبل تقديم المساعدات. تشمل العوائق تأشيرات الدخول وتصاريح السفر وغيرها من الإجراءات المطلوبة لنقل الموظفين والمساعدة داخل البلاد بما يؤدي إلى تأخير تقديم المساعدة.
وبعد اندلاع الحرب، بدلا من تخفيف هذه اللوائح والاشتراطات لدعم الاستجابة الإنسانية، اختارت السلطات تشديد الإجراءات البيروقراطية التي كانت مطبقة قبل الحرب، والتي تهدف إلى فرض رقابة مشددة على أنشطة المساعدات. وكان التحدي المتمثل في الحصول على التأشيرات بمثابة عقبة رئيسة أمام المنظمات الإنسانية، ما أعاق قدرتها على توسيع نطاق الاستجابة. كانت هناك أكثر من 200 تأشيرة معلقة للموظفين الدوليين بحلول سبتمبر/أيلول 2023. وأصبح عدد العاملين في المجال الإنساني الدوليين في السودان الآن أقل من مستوياته قبل أبريل/نيسان 2023. واتضح بشكل جلي أن معالجة الأوضاع الإنسانية يأتي في المرتبة الثانية بالنسبة للقوات المسلحة السودانية بعد مخاوفها السياسية والأمنية.
على الجانب الآخر، تعتنق “قوات الدعم السريع” استراتيجية لتجويع المواطنين في المناطق الخاضعة لسيطرتها، ووصف أحد الدبلوماسيين المخضرمين الذين عملوا سابقا في السودان، إن ذلك يجري لإخضاع المواطنين أو إجبارهم على ترك مناطقهم الأصلية وإعادة توطينها بعناصر موالية لـ”قوات الدعم السريع”. وذلك بالإضافة إلى عمليات النهب المستمرة لمخازن ومكاتب منظمات الإغاثة والعمل الإنساني، فعلى سبيل المثال وفي غضون شهرين، بين اندلاع الحرب في أبريل 2023 ويونيو/حزيران 2023، تم نهب ما لا يقل عن 162 شاحنة مساعدات و61 مكتبا و57 مستودعا ومخزنا للمساعدات في دارفور وحدها. وفي يونيو 2023، أدى نهب مستودعات “صندوق الغذاء العالمي” في الأبيض، جنوب وسط السودان، إلي خسارة المساعدات الغذائية التي كان من المخطط تقديمها لـ4.4 مليون مدني متضرر من النزاع للخطر. وقدرت الخسائر المسجلة لبرنامج الأغذية العالمي وحده بأكثر من 60 مليون دولار بحلول تاريخ ذلك الهجوم. وفي بيان آخر لصندوق الغذاء العالمي بتاريخ 28 ديسمبر/كانون الأول 2023، قال الصندوق بشكل مباشر إن “الدعم السريع” قامت بنهب مستودعاته في ولاية الجزيرة بعد اجتياحها.
وكشفت تقارير الحادث أن هذا النهب حدث على الرغم من تزويد “قوات الدعم السريع” بإحداثيات الموقع الدقيق للمخزن، وتلقي برنامج الأغذية العالمي تطمينات بأنه لن يتم نهبه. وشملت خسائر هذا الحادث أكثر من 2500 طن/متري من المساعدات الغذائية التي تشمل البقول والذرة الرفيعة والزيوت النباتية والمكملات الغذائية، إلى جانب الأطعمة المغذية المتخصصة المصممة للوقاية من- وعلاج- سوء التغذية لدى أكثر من 20 ألف طفل وامرأة حامل. وكانت كمية المساعدات المسروقة كافية لتغطية الاحتياجات الغذائية لـ1.5 مليون سوداني لمدة شهر. وهو ما أدى الي إيقاف أنشطة الصندوق في المنطقة.
تجويع للتجنيد
بالإضافة إلى ذلك، أدت استراتيجيات التجنيد الاستغلالية، المصحوبة بمخاطر نقص الغذاء، إلى زيادة العسكرة الإقليمية في البلاد. وتستخدم “قوات الدعم السريع” المجاعة الضاربة في أنحاء البلاد والتهديدات الأمنية لإجبار الشباب على الانضمام إلى صفوفها. كما تستخدم الغذاء كآلية ترغيب وترهيب للتجنيد بحجب الإمدادات عن المجتمعات المحتاجة لها في محاولة لإجبار الرجال والفتيان على الانضمام إلى صفوفها.
وكشفت تحقيقات مستقلة أن “قوات الدعم السريع” جندت نحو 700 رجل و65 طفلا في ولاية الجزيرة وحدها خلال الأشهر الثلاثة الماضية. كما أن استراتيجية حصار المجاعة نفذتها “الدعم السريع” أيضا على المناطق المدنية مثل جزيرة توتي في الخرطوم، وأحياء العباسية والفتيحاب وبانت في أم درمان، والمناطق الحضرية الرئيسة في دارفور، ومدينة ود مدني بالجزيرة إبان سيطرتها عليها.
وخلقت هذه الاستراتيجية جيوبا تعسفية من المجاعة كان الناس في السابق فيها قادرين على الحصول على احتياجاتهم الأساسية من الطعام والشراب. وبمجرد أن تمكنت “الدعم السريع” من السيطرة على خمس محطات مياه في الخرطوم، حتى قطعت إمدادات المياه عن المواطنين. وكثيرا ما تم توثيق الوفيات الناجمة عن العطش والجوع في هذه المناطق المحاصرة. علاوة على ذلك، أظهرت “قوات الدعم السريع” أنها لا تتورع عن وقف شاحنات المساعدات، حتى في المناطق التي نجت من القتال الدائر، مثل شمال دارفور.
في 12 أبريل، كان مكتب تنسيق المساعدات الإنسانية التابع للأمم المتحدة قد أطلق خطته لمواجهة وضع المجاعة المحدق بالبلاد، وهي خطة طموحة وقابلة للتحقيق، خصوصا بعد نجاح مؤتمر باريس في تغطية جزء مقدر من الميزانية التي تحتاجها. ولكن يبقى النقص في هذه الخطط في كيفية إنزالها إلى أرض الواقع بفعالية. ودون اعتماد منهج توطين المساعدة الإنسانية، سيبقى أغلب هذه الخطط حبرا على ورق. وقدم المتطوعون السودانيون وغرف الطوارئ التي انشأتها لجان المقاومة القاعدية في السودان، مثالا باسلا وناجحا لكيفية تقديم المعونة الإنسانية بشكل عملي. وظلوا على مدار العام الماضي الآلية الوحيدة الناجعة لتقديم العون الإنساني. ونجحت مبادرة المطابخ الجماعية التي ابتدعتها الغرف في سد الفجوة الغذائية الحادة التي يعاني منها المحتجزون في المناطق المتأثرة بالحرب ونجحوا في تطوير تكتيكات فاعلة للتعامل مع الواقع بحسب الظروف المحيطة. كما قاموا بتطوير آلية تنسيق مرنة سمحت لكل غرفة طوارئ بالعمل بشكل فاعل في منطقتها المعينة بالتنسيق مع الغرف الأخرى في التدخلات الكلية.
ويعد توطين خطط التدخل الإنساني بالاعتماد على دعم غرف الطوارئ نهجا ضروريا وبالغ الأهمية، ولكن هذا الدعم ينبغي أن يكون وفقا لشروطهم، ووفقا لاحترام أساليبهم الناجحة والمجربة واستقلاليتهم في التخطيط والتنفيذ. محاولات بعض الفاعلين الدوليين والجهات الفاعلة ذات الدوافع السياسية لفرض مثل هذه النماذج المركزية على غرف الطوارئ لن تؤدي إلا إلى تعطيل تطور بنيتها الناجحة وإعاقة فعاليتها في نهاية المطاف. وبالمثل، ينبغي للجهات السياسية أن تمتنع عن محاولة استخدام المساعدات الإنسانية لتحقيق مكاسب سياسية. ويجب أن تكون المساعدات الإنسانية شريان حياة، وليست ورقة مساومة.
نقلاً عن المجلة
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.