أمجد فريد الطيب يكتب: “الدعم السريع” والبحث عن أقنعة للحرب في السودان
يوم الاثنين 25 مارس/آذار 2024، أعلنت “قوات الدعم السريع” تشكيل إدارة مدنية لولاية الجزيرة وسط السودان. وبحسب البيان الذي أصدرته الميليشيا، تتكون الإدارة المدنية من 31 عضوا، ويترأسها صديق عثمان أحمد، عضو حزب الأمة وهو أحد أكبر الأحزاب المكونة لتحالف تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) الذي يرأسه رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، وضمت تشكيلة الإدارة المدنية أعضاء آخرين من عضوية أحزاب “تقدم”. ومن الجيد أن مجلس تنسيق “حزب الأمة” قد أصدر بيانا تبرأ فيه من أي ارتباط بأي شكل بهذه الإدارة أو بالعضوية التي شاركت فيها. إلا أن الأمانة العامة للحزب لم تلبث أن أصدرت بيانا آخر بدورها تبرأت فيه من بيان مجلس التنسيق باعتباره لم يصدر من اجتماع شرعي لمجلس التنسيق ولم يمر بالأطر المؤسسية. وقالت إنها لم تقم بنشره وأرجأت هذا النشر لمزيد من التشاور.
وكانت ولاية الجزيرة قد عاشت في حالة من الرعب المستمر منذ اجتياح قوات الميليشيا لها في منتصف ديسمبر/كانون الأول 2023. وأورد برنامج الغذاء العالمي أن اجتياح “قوات الدعم السريع” لمخازنه في الجزيرة قد تسبب في إيقاف عمليات الإغاثة الإنسانية في المنطقة وأن الميليشيا قامت بنهب مواد غذائية كانت تكفي لإطعام مليون ونصف المليون مواطن سوداني لمدة شهر كامل، بالإضافة إلى نهب المساعدات الغذائية اللازمة لعلاج عشرين ألف طفل وامرأة حامل وأم مرضعة من سوء التغذية. تواصلت تجريدة العنف البربري والإرهاب والتي تضمنت جرائم القتل والاغتصاب والنهب التي مارستها الميليشيا على مدى 100 يوم منذ اجتياح ولاية الجزيرة لتتسبب في موجة نزوح ثانوية بلغت 600 ألف مواطن حتى نهاية يناير/كانون الثاني 2024. فيما أوردت لجان مقاومة مدينة ود مدني (عاصمة ولاية الجزيرة) أن التقارير رصدت نحو 400 من الضحايا الذين فقدوا أرواحهم على يد الميليشيا منذ اجتياحها للولاية.
وقد أشار كثير من المراقبين للشأن السوداني، إلى أن تكوين هذه الإدارة جاء كتطبيق للاتفاق بين “تقدم”، و”قوات الدعم السريع”، الذي تم توقيعه بواسطة قائد الميليشيا محمد حمدان دقلو (حميدتي) ورئيس تنسيقية “تقدم” عبد الله حمدوك يوم 2 يناير 2024 في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا والذي تنص إحدى مواده على تكوين إدارات مدنية تتولى ضمان عودة الحياة إلى طبيعتها. لكن منذ توقيع اتفاق حمدوك- حميدتي والذي أكمل شهره الثالث، لم نشاهد تطبيق أي من نصوصه والتي شملت الاتفاق على فتح ممرات إنسانية وإطلاق سراح المحتجزين لدى “قوات الدعم السريع” وغيرها من البنود، على أرض الواقع.
احتفت بعض قيادات “تقدم” علنا بتكوين هذه الإدارة المدنية. فقد عبر سليمان صندل حقار، رئيس “حركة العدل والمساواة” المنضوي في “تقدم”، في سلسلة من التغريدات عن مباركته لمواطني الجزيرة بتكوين هذه الإدارة والتي اعتبرها أول ركن من أركان النظام الفيدرالي. بينما نفى علاء الدين نقد، الناطق الرسمي باسم “تقدم”، علاقة “تقدم” بتكوين هذه الإدارة وقال إنها جاءت بالعودة “لقرار سكان الولاية” رغم أن إعلانها تم بواسطة بيان صادر من “قوات الدعم السريع”. وأشار نقد إلى أن من شأنها التخفيف عن سكان الولاية.
ظهرت بوادر عمل الإدارة المدنية التي شكلتها “قوات الدعم السريع” بمشاركة أفراد في تنظيمات “الحرية والتغيير”، فقد قامت عناصر الميليشيا يوم الجمعة 29 مارس باعتراض حافلة ركاب خارجة من قرية الدومة بالقرب من ود الحداد، جنوبي الجزيرة، متجهة الي ولاية سنار بالطريق الغربي. وأطلق عناصر الميليشيا النار على حافلة الركاب بغرض نهبها، لتقتل عددا من المسافرين على الفور ثم تقوم بملاحقة الركاب الذين حاولوا الفرار إلى القرى المجاورة. وصل عدد من الإصابات إلى مستشفى سنار ولكن مصير أغلب المسافرين لا زال مجهولا. وقبلها بيومين استباحت الميليشيا قرى الحلاوين في الجزيرة، وشملت هجماتها قرى مناقزة، وإب سير، وود باهي، والتكلة جبارة. وقتلت قرابة الخمسين من سكان تلك القرى في هذه الحملة، ما أدى إلى نزوح أهالي هذه القرى مشيا باتجاه شرق الجزيرة إلى منطقة تمبول.
وقبلها بأيام، في 21 مارس 2024، نشرت شبكة “سي إن إن” الإخبارية، تقريرا عن التجنيد الإجباري الذي تمارسه “الدعم السريع” في ولاية الجزيرة واستخدام الطعام كسلاح وحجب الإمدادات عن الجياع في محاولة لإجبار الرجال والفتيان على الانضمام إلى صفوفها، ووفقا لأكثر من ثلاثة عشر شاهدا استند إليهم التقرير. وشملت حملات التجنيد الإجباري الذي قامت به “قوات الدعم السريع” أكثر من خمسين طفلا تحت سن الثامنة عشرة أجبرتهم قوات الميليشيا على الانخراط والقتال في صفوفها.
ربما تستطيع قوى “تقدم” أن تنكر علاقتها المباشرة بتكوين الإدارة المدنية في الجزيرة، ولكنها لا تستطيع أن تخفي انخراطها المباشر في تقديم الدعم السياسي للميليشيا والذي يساهم بقدر وافر في إطالة هذه الحرب.
وإذا كان تكوين هذه الإدارة المدنية في الجزيرة بالاستناد إلى اتفاق 2 يناير هو مثال، فإن الأمر يتجاوز ذلك إلى محاولات تخفيف الانتهاكات التي ترتكبها “قوات الدعم السريع”، وتعمية الأعين عنها، أو محاولات إجبار الناس على تجاهلها في سياق النقاشات السياسية. وانخراط هذه العناصر السياسية المدنية في محاولات إيجاد مبررات سياسية لحرب الميليشيا وإجبار السودانيين على التعامل معهم كفاعل سياسي طبيعي وعادي، بل تبرير الانتهاكات بأن هذه هي طبيعة الحرب، هو استهزاء وسخرية من معاناة السودانيين وما أصابهم من مصائب ووقع عليهم من معاناة على يد جند الميليشيا. وهو ما لا يليق بقوى وطنية تسعى لحكم السودانيين أو لما فيه خير لهم. لم يكن مطلوبا من هذه القوى غير أن تقوم بإدانة الانتهاكات في ذاتها، بغض النظر عمن قام بها، بدلا من الانخراط في حملة السرديات البديلة والتي وصلت لحد تزوير البيانات الحقوقية واختلاق الأحداث والجرائم لتوزيع المسؤولية عن الجرائم وتبرير انحيازها الفاضح.
وما ارتكبته عناصر “الدعم السريع” منذ اندلاع هذه الحرب في يومها الأول، لم يختلف كثيرا عما انخرطت فيه من ممارسات فاشية منذ يوم تأسيسها. وهو أيضا دلالة على خطأ المنهج السابق الذي كان يسعى لتقنينها أو التعامل مع إصلاح جهاز الدولة عبر إدماجها فيه كعناصر تحمل السلاح بشكل شرعي لحفظ القانون والنظام.
كما أن سعي عناصر “قوى الحرية والتغيير”، وتنسيقية “تقدم” في التعامل مع النقد السياسي الموجه لخطها السياسي عبر التشكي والوساطات الشخصية، أو السعي لإقصاء الآخرين عن ساحات التداول السياسي، واغتيال الشخصيات الناقدة بنشر الأكاذيب وتدليس المواقف، هو مما ينبغي لهم إعادة النظر فيه. فالحق غير مخدوم بالباطل. والأولى بهم إعادة النظر في مواقفهم السياسية وخطهم المتماهي مع ميليشيا غاصبة أذاقت السودانيين مر العذاب. بل حتى على المستوى السياسي، فهذه مراهنة سياسية خاسرة لقوى تسعى فعلا لتمكين الديمقراطية وحكم السودانيين لأنفسهم، فكيف لمنظومة سياسية، فشلت حتى في إبداء التعاطف مع شعبها في سياق كل هذه المأساة البشعة، أن تسعى لحكمه عبر أدوات الديمقراطية والاقتراع.
إن السعي لإيقاف الحرب في السودان لا يمكن أن يكون عبر الانحياز والتماهي مع أحد طرفيها. أما محاولات ادعاء الحياد الكاذب والترويج للسرديات الكاذبة الممجوجة فهو ما لم ينطلِ على الشعب السوداني الذي يشاهد ويشهد ما يحدث في بلاده أمام عينه.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.