حسين خوجلي يكتب: وخلونا على الحديدة
إحدى ليالي الخرطوم المشمولة بالنظام والأمن والطمأنينة، وقفت خارج مقر ألوان أيام عزها انتظاراً لسيارتي المتواضعة التي غابت لإرسال الصحيفة المطبعة، وفجأة توقفت بجواري سيارة لاندكروز اوباما آخر موديل، وترجل منها زميل دراسة سابق تركنا لمهنة الرهق واختار تجارة المحاصيل.
تصافحنا وتسامرنا وأصر أن يصطحبني إلى منزلي، فتركت مذكرة عند الحارث وذهبت معه. فوجئت وأنا داخل السيارة الوثيرة أن الصندوق الداخلي الأمامي للسيارة كان مليئاً بأنواع فاخرة من التمر، فتسائلت عن السبب فحكى لي هذه الحكاية التي أُعدها من حكايات الصدقات الأنيقة قال لي: إني كنت في مشوار عمل سلكت فيه شارع المطار فاستوقفني بإلحاح رجلاً سبعيني، وقد أغراني وجهه الصبوح بالتوقف رغم استعجالي لقضاء بعض الأمور التجارية.
قال لي يا ابني أنا لست سائلاً بل أنا ناصح وفي هدوءٍ وقور ملأ قبضته كاملة من البلح البركاوي قائلاً لي بصوت خفيض عميق اكتب يا ابني أو سجل عني هذا الحديث، ولحسن الحظ كان معي أجندة ورقية وقلم، فقلت له سأكتب قل فقال بطمأنينة عجيبة حتى ظننت انه (النبي الخضر) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر النار فأشاح بوجهه فتعوذ منها، ثم ذكر النار فأشاح بوجهه فتعوذ منها، ثم قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)
نصيحتي لك يا ابني ألا تشغلك الدنيا عن الأيامى واليتامى والفقراء والمساكين وعليك أن تتق النار ولو بشق تمرة وعندما أكمل الجملة الأخيرة اختفى الرجل في الزحام كأنما ما ابتعلته الأرض. ومنذ ذلك اليوم أصبحت سيارتي لا تخلو من كل أنواع التمر. فأخذت منه سبع تمرات فقلت له هذه واحدة تنجيك من النار وإن شاء الله الستة الأخريات تكون لك قصوراً في الجنة.
وقبل أن أترجل قصصت عليه هذه الطرفة
أن صديقاً كان يتوقف في إحدى الشوارع وله زبون من (الشحادين) الظرفاء ينفحه دائماً بورقة مالية ولا يرده أبداً، مرة من فئة الخمسين ومرة من فئة المائة ومرة من فئة مئتين.
نصحه أحد اصدقائه بالتعقل قائلاً إن الشحادين هذه الأيام يملئون الطرقات من الصادقين والكذبة وأنت لا ترد أحداً فلي حل عملي لك. ولم يدري مقصده حتى اتاه يوماً بعلبة من الفئات المعدنية فصبها في صندوق السيارة الأمامي، فأصبح حينما يتوقف أمام السائل الظريف لا يخرج محفظة العملات الورقية، بل يدس يده في الفئات المعدنية ويمنحه كما تعود. تكررت العطايا المعدنية لأيام كثيرة وفي آخر مرة أخذ الشحاذ نصيبه من الفئة المعدنية الراتبة، وحدق بتعبير ما بين السخط والسخرية وقرر المواجهة قائلاً: ( خلاص خليتونا على الحديدة؟
ضج صاحب التمر بالضحك وقال معلقاً سأجعل من هذه اللحظة اتقاء النار ورقاً وبلحاً وكلمةً طيبة.
**حاشية:
أخشى أن يكون أول تعليق على هذه الخاطرة يا صديقي الخرطوم هذه الأيام فقدت سيارات اللاندكروزر وفقدت شارع المطار وفقدت تمر البركاوي وفقدت الشحادين الظرفاء وفقدت ألوان وقناة أمدرمان وإذاعة المساء. فالرجاء إحالة ما تكتب إلى تشاد أو النيجر أو مالي أو بوركينا فاسو أو أفريقيا الوسطى، فسياراتنا وتمرنا وتجربتنا الاقتصادية ومؤسساتنا الإعلامية بمكتباتها وأجهزتها قد غادرت إلى غرب أفريقيا بغير رجعة، وخلونا على الحديدة.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.