أمجد فريد الطيب يكتب: انقسام السودان إلى ثنائيات سامة تذكي نار الحرب
البعض من ساسة هذا الزمن الذي يمر به السودان، والذي انتهى بنا في درب هذه الحرب، لم يعرفوا من السياسة إلا شبقهم للسلطة واعتلاء المناصب ولو عبر فوهات البنادق مرورا بسرديات التضليل والتدليس التي تجتهد في التبرير للحرب.
تجدهم يحاولون أن يفرضوا على سياق النقاش العام عن حرب السودان ثنائية سامة، تفرض على الجميع الانحياز لمعسكري ميليشيا “قوات الدعم السريع” أو الجيش، أو لمعسكري قوى “الحرية والتغيير” أو الإسلاميين، ويصنفون الشعب السوداني- وفق محاولتهم احتكار الصوت المدني وجهد وقف الحرب وكأنه غنيمة أخرى- لملائكة معهم أو شياطين ضدهم، مستخدمين في ذلك كل وسائل التزوير في تدليس المواقف ونسبتها للناس ونشر الدعايات عنهم في عملية تهدف للابتزاز الإعلامي وإسكات الأصوات المختلفة أو إجبارها على تبني ما شاه من مواقفهم.
الشاهد أن الواقع أوسع من ذلك. وهذه البلاد أكبر منهم ومن هذه الثنائيات السامة. وفي الحقيقة فإن هذا التبسيط المعلول هو مجرد رافعة وغطاء لخدمة أهداف سياسية ذاتية والصعود على محرقة هذه الحرب لتحقيقها، دون وضع اعتبار لعواقب ذلك على شعب السودان.
منذ يومها الأول ظللنا نردد فيما هو موثق أن هذه الحرب حرب سيئة تدور بين طرفين سيئين يتراوحان في سوئهم. وأن الموقف الحاد ضد الميليشيا مرتبط بشكل مباشر ومبني على حجم انتهاكاتها ومدى فظاعة ما ترتكبه الآن ضد السودانيين، الذين وقع جندها فيهم تقتيلا وإبادة وتشريدا واغتصابا واحتلالا للمنازل ونهبا للمقتنيات.
كل هذه الأفعال تتعارض مع وجود السودان كدولة يطمئن الناس للمعيشة فيها، وتحكمها نظم وقوانين تنظم حياة الناس ومعاشهم. وما أدل على ذلك، من إبرة بوصلة حركة السودانيين التلقائية نزوحا من المناطق التي تسيطر عليها الميليشيا نحو المناطق التي يسيطر عليها الجيش.
بوصلة هذه الحركة الطبيعية والتلقائية ترشد من ينظر للأمر بعين التجرد والوضوح إلى حجم وزر فعائل ميليشيا “قوات الدعم السريع” واستمرارية وجودها الذي لا يتوافق ولا يتسق مع الحياة والمعيشة الطبيعية، ولا يملك السودانيون إلا أن يلوذوا منها فرارا، بحثا عن السلامة.
في الجانب الآخر من الحرب، نجد مؤسسة الجيش، وهي وإن كانت من شروط وجود الدولة الحديثة في السودان، فإنها موبوءة بعبء تشوهات هذه الدولة الحديثة التي نشأت في أعقاب الاستعمار، وورثت منهج حكمه في تحديد دورها بالوصاية على جهاز الدولة وليس حمايته.
في الجانب الآخر من الحرب، نجد مؤسسة الجيش، وهي وإن كانت من شروط وجود الدولة الحديثة في السودان، فإنها موبوءة بعبء تشوهات هذه الدولة الحديثة التي نشأت في أعقاب الاستعمار، وورثت منهج حكمه في تحديد دورها بالوصاية على جهاز الدولة وليس حمايته.
لقد تمكنت منها شهوة الحكم حتى أقعدتها عن الفعالية في القيام بدورها، الذي أوكلته لميليشيات أدمنت صناعتها ثم عجزت عن التصدي لها. ثم زاد من إفسادها ثلاثون عاما من حكم “الإخوان المسلمين” الذين تمكنوا من مفاصلها وشغلوها عن أداء دورها القتالي بالانخراط قي كل أنواع الأنشطة التجارية والاستثمارية والإدارية البعيدة كل البعد عن دورها الأساسي والأصلي.
ولكن في خضم هذه الحرب، بل وفي كل حين، لن يختار السودانيون بين ما هو سيئ وما هو أسوأ. والموقف ضد الحرب هو موقف ضد انتصار الطرفين، بل هو موقف ضد الحرب في أساسها وضد طرفيها، ولا يمكن أن يُسعى في تشجيع طرف ضد الآخر، وترديد الدعايات الحربية لأحد الطرفين لدرجة نسبتها لمصادر غربية موثوقة- زيادة في التأكيد- كما ادعى أحدهم قبل أيام أنه وصلته تأكيدات من هذه المصادر الغربية الموثوقة بأن سلاح المهندسين قد سقط في يد “قوات الدعم السريع”، بينما كان الواقع غير ذلك، مستغلا انقطاع الاتصالات والإنترنت عن السودان لتسويق أكاذيب وردت في خطاب حماسي وجهه محمد حمدان دقلو- حميدتي، لرفع معنويات جنده.
بينما ادعى سياسي آخر أن الجنجويد لم يرتكبوا انتهاكات على مدى عشرة أعوام، وذكرى ظهورهم الأول في قمع انتفاضة سبتمبر/أيلول 2013 بأكثر من مئتي ضحية، وقفوا وتم إطلاق النار عليهم، قريبة الذكرى للأذهان، ناهيك عن مشاركتهم في مجزرة فض الاعتصام في يونيو/حزيران 2019 وما تلاها من مجازر بعد مشاركتهم مع الجيش في انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021.
وتستمر تراجيدوكوميديا صناعة سرديات الواقع المغاير إلى الاحتفاء بتبادل مقاطع فيديو تحتفي بانضمام مئة عربة حربية من قوات حركة التحالف السوداني أحد مكونات “جبهة تقدم” إلى قوات الدعم السريع بحاضرة ولاية غرب دارفور الجنينة، ويُكتب في ختامه “لا للحرب نعم للسلام”… وكأن هذه القوات تنضم إلى قوات حفظ سلام وليس إلى جهة أشعلت الحرب وانخرطت فيها بكل سوءاتها.
عبث بآلام السودانيين
يتحول هذا المشهد السياسي من سعي إلى ما ينفع الناس كما يجب أن تكون السياسة إلى عبث يهزأ بآلام السودانيين ومعاناتهم جراء هذه الحرب بشكل يفوق التصور والمعقول. فكيف يأمل تحالف سياسي أن يسعى إلى حكم الناس وإدارة أمرهم في أي بلاد دون أن يضع نصب عينيه أو في باله أن يتعاطف معهم في ظل كل ما يتعرضون له من تلك الفظائع والانتهاكات المستمرة.
ما يفعله أعضاء “الحرية والتغيير” وجبهة “تقدم” من تشجيع خفي ومستتر للميليشيا من جهة، وما يفعله بقايا “المؤتمر الوطني” والحركة الإسلامية السودانية من جهة أخرى في جانب الجيش، ليس ثنائية قدرية مكتوبة على السودانيين. هذه خياراتهم السياسية، وكلاهما يتوسل بها للوصول إلى مقاعد السلطة صعودا على فوهات الأسلحة وصخب القنابل والألغام.
بل إن ما تفعله “قوى الحرية والتغيير”، وجبهة “تقدم” لا يقل سوءا، كونه يغبش الوعي العام بتسخير شعارات الثورة والديمقراطية والحكم المدني في خدمة الميليشيا وسردياتها الموازية للواقع.
من حق السودانيين أن يأملوا ويعملوا، وأن يختاروا طريقا ثالثا لا يرفع كراسي أولئك أو هؤلاء في شبقهم للسلطة. طريقا يفضي بهم لاستعادة بلادهم وثورتهم ويفتح أبواب المستقبل لهم في كامل سيادتهم على بلادهم.
نقلاً عن المجلة
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.