باج نيوز
موقع إخباري - أخبار اراء تحليلات تحقيقات بكل شفافية
1135*120   Last

شوقي عبدالعظيم يكتب: الميليشيات في السودان… تاريـخ مديد

1٬019

سياسة عدم المساواة والظلم والتهميش التي اتبعتها الحكومات المركزية في الخرطوم منذ استقلال السودان عام 1956 دفعت الكثيرين إلى حمل السلاح ومهاجمة النخبة المتحكمة في السلطة وجيشها، بحسب تبرير قادة الحركات المطلبية المسلحة.

وربما كانت أولى معارك عدم المساواة قبل إعلان الاستقلال رسميا، وتحديدا عام 1955 عندما تمردت مجموعة من قادة جنوب السودان في الجيش بمساندة السياسيين الجنوبيين احتجاجا على عدم مساواتهم وظلمهم عند توزيع الوظائف التي تمت “سودنتها” تمهيدا لخروج المستعمر الإنجليزي، فقد تم منحهم وقتها 3 وظائف من 800 وظيفة، مع تظلمات أخرى متعلقة بالتنمية حينها.

ومنذ ذلك التاريخ تكررت الحروب في أطراف البلاد دون أن تبتعد عن هذه المطالب كثيرا وبطبيعة الحال قاتلتهم الحكومات على أنهم متمردون وخوارج عن السلطة الشرعية ومهددون للدستور.

ولما كانت الحكومات نفسها مضعضعة اقتصاديا وتستند على جيش محدود الإمكانيات في غالب الأحوال، وكانت حروب الحركات المطلبية المسلحة عبارة عن حرب عصابات أو حرب “اضرب واهرب” المرهقة للجيوش المنظمة في بلد شاسع، فقد ابتدعت الحكومات والجيش السوداني بدعة الاستعانة بالقبائل والسكان المحليين في القتال، ولاحقا انتهى الأمر إلى تكوين ميليشيات وجيوش موازية للجيش السوداني.

ومن منظور متبصر للتاريخ يمس الأحداث الجارية اليوم في السودان، سنجد أن صناعة الميليشيات حكر على الحكومة والجيش، وتتجاهل طبيعة الجيوش الموازية التي تحمل بذور تفكيك الدولة في نهاية المطاف.
تسليح القبائل: الدفاع عن النفس
كانت البداية أيام حكم الجنرال إبراهيم عبود الذي استولى على السلطة في السودان عبر انقلاب عسكري عام 1958 في ذلك الوقت كانت دولة السودان تشمل دولة جنوب السودان الحالية.
في عام 1963 انطلقت شرارة تمرد جديدة في مديرية أعالي النيل جنوبي السودان وكانت أكثر اشتعالا من الأولى، ولم يكن في المديرية سوى كتيبة للجيش وعدد من قوات الشرطة، وكانت هناك تفلتات في مناطق أخرى في جنوب السودان. وفضلا عن نذر تململ من سياسات الحكومة في مدن السودان، اتخذت السلطات العليا قرارا بتسليح سلاطين قبائل النوير في مراكز الناصر وأكولو وفنجاك بانتيو، وكذلك قبيلة المورلي في البيبور والدينكا في مركز بور وقبيلة الشلك في مركز كدوك.
كانت هذه هي المرة الأولى التي تم فيها تسليح للقبائل عن طريق سلاطينهم بحجة حماية أرواحهم وأموالهم من هجمات التمرد التي كانت تستهدفهم للحصول على شبان مقاتلين وعلى المواشي التي تستخدم غذاء لقوات المتمردين، وعلى الرغم من أن كثيرا من العسكريين يرون أن التسليح كان محدودا إذ لم يتعدَ نصيب القبيلة عشر بندقيات من الطراز القديم، فإنهم يتفقون على أن سياسة حكومة إبراهيم عبود فتحت الباب، كما أنها لم تتابع عملية التسليح منعا من تفلتها، حيث شهدت البلاد اضطرابات سياسية في الخرطوم وأطيح بالجنرال عبود وحكومته بعد عام من تسليح القبائل في جنوب السودان.
“قوات المراحيل”… حراسة القطعان
في عام 1972 تم توقيع اتفاق بين “الحركة الشعبية” التي تقود الكفاح المسلح باسم أبناء جنوب السودان ضد نظام الرئيس جعفر نميري (1969-1985). ولما كانت قطعان رعاة الماشية تتحرك في رحلة سنوية أثناء فصل الصيف من الشمال الغربي إلى الجنوب، بحثا عن الماء والعشب، ودائما ما يقع قتال بين الرعاة والسكان المحليين في الجنوب أو قطّاع الطرق المسلحين، فقد اتخذت السلطة العليا قرارا بتخصيص كتيبتين من القوات المسلحة، إحداهما تتمركز في منطقة سفاهة، تتحرك مع قبيلة الرزيقات في مراحيلهم من الشمال للجنوب حتى مركز أويل. والكتيبة الثانية تتمركز في الميرم، للتحرك مع قبيلة المسيرية في مراحيلهم حتى مركز قوقريال في الجنوب، حتى لا يقع قتال يخرب اتفاق السلام. ولما كانت القبائل التي تتم حراسة قطعانها من القبائل العربية في دارفور، فقد راج أن حكومة النميري سلحت القبائل العربية ضد قبائل جنوب السودان.
ولما كانت هذه المناطق هي مناطق نفوذ طبيعي لـ”حزب الأمة القومي” أحد الأحزاب السودانية الكبيرة، فقد لاحقته تهمة تسليح القبائل الموالية له للدفاع عن نفسها على الرغم من نفي التهمة من قبل الحزب في أكثر من مناسبة.
ومن الثابت أن الفكرة كانت في عهد الرئيس جعفر نميري. وقد سمحت تجربة “قوات المراحيل”- بحسب عسكريين- لبعض ملاك القطعان الكبيرة بتسليح أنفسهم وأبنائهم ومن يعملون معهم في رحلة الماشية في الصيف، بحجة أن القطيع كبير يزيد على خمسة آلاف رأس من البقر في بعض الأحيان، ولذلك ينظر إلى هذا التسلح على أنه أحد بذور انتشار السلاح، حيث تكتل الرعاة تجاه من يهاجمون ماشيتهم بالسلاح أو تجاه المزارعين الذين يمنعون القطعان من الرعي في مزارعهم. وكثيرا ما وقعت حوادث قتل بين المزارعين والرعاة وخاصة بعد انتشار السلاح.
أطيح بنظام جعفر نميري في أبريل/نيسان 1985 وكانت “الحركة الشعبية” التي تحمل السلاح قد استفحل أمرها في جنوب السودان بقيادة الدكتور جون قرنق دمبيور، وظن القادة السياسيون أن الإطاحة بنظام النميري تفتح الباب لتحقيق اتفاق مع “الحركة الشعبية” ينهي الحرب، إلا أن ما حدث كان مخالفا للتوقعات إذ رفض قائد الحركة المتمردة الجلوس مع حكومة الفترة الانتقالية أو القادة السياسيين واعتبرها “مايو-2” على حد تعبيره، أي “مايو الثانية”– انقلاب النميري وقع في 25 مايو/أيار 1969، لذلك تعرف بثورة مايو- وفعليا صعد القتال في الجنوب، ولأول مرة تهاجم قواته إقليم كردفان، وأرسلت الحكومة الانتقالية وفدا إلى مناطق جبال النوبة التي هاجمتها قوات “الحركة الشعبية” في إقليم كردفان، ضم الوفد وزير الدفاع اللواء فضل الله برمة ناصر، وعددا من القادة العسكريين والوزراء المدنيين.
وقد وضع السكان وزعماء القبائل الحكومة أمام ثلاثة خيارات، أولها: حمايتهم وممتلكاتهم من هجمات قوات الحركة. أما الخيار الثاني- في حال عجزت الحكومة عن الأول- فهو تسليحهم لحماية أنفسهم وأهليهم، وإلا انضمامهم وتسليمهم للجيش المتمرد حتى لا يقتلهم وينهب ماشيتهم ومحاصيلهم الزراعية.
الشروط الثلاثة وضعت الحكومة تحت ضغط شديد، ولم يجدوا بدا من القبول بالخيار الثاني، وهو تسليح قبائل التماس بين الشمال والجنوب بإشراف الجيش لحماية أنفسهم وحتى لا ينضموا إلى صفوف الأعداء. ويقول اللواء برمة ناصر وزير الدفاع وقتها: “خشينا من التسليح العشوائي الذي يمكن أن تفرضه الحرب على القبائل لحماية أنفسهم وفضلنا أن يكون بإشراف الجيش عبر السلاطين والعمد في جنوب كردفان من النوبة والعرب”. إلا أن الفكرة لم تنفذ كما أشار إلى ذلك برمة ناصر لأسباب تتعلق بالبيروقراطية في الفترة الانتقالية التي لم يتعد عمرها عاما واحدا وبسبب الهجوم الكبير من الأحزاب المعارضة لـ”حزب الأمة”، لجهة أن وزير الدفاع برمة هو أحد قياداته.
الدفاع الشعبي… بداية الميليشيات
اعترف رئيس الوزراء المنتخب في 1986 الإمام الصادق المهدي بأن فكرة تأسيس قوة من متقاعدي الجيش والشرطة كانت في عهد حكومته، وأطلق عليها اسم “قوات الدفاع الشعبي”. ومنبع الفكرة التي ظلت تتكرر دائما عجز الجيش عن بسط حمايته في جميع ربوع البلاد المترامية. وفي عهد الصادق تردى الجيش وبدأت الحاميات العسكرية والمدن في جنوب السودان تسقط في يد جيش “الحركة الشعبية” وتمدد القتال في إقليم كردفان. وقال: “هناك قادة طلبوا تكوين قوة شعبية مساندة للجيش الذي فقد كثيرا من موارده في الحرب وصدقنا لهم بتسليح قدامى المحاربين من الجيش والشرطة، مهمتها حماية المدن، وتساعد في حراسة المنشآت وطرق حركة التجارة والإمداد بقيادة من القوات المسلحة وتمت إجازة الفكرة في اجتماع مجلس الوزراء”.
ولكن، ومرة أخرى، لم تنفذ فكرة قوات الدفاع الشعبي بعد إجازة إطارها النظري بسبب انقلاب “الإنقاذ” في 1989 على حكومة الصادق المهدي، والمفارقة الغريبة أن ملف الدفاع الشعبي لم يغلق بعد انقلاب البشير ولكن سينفذ بطريقة تجعل منه بذرة الميليشيات في العهد الجديد.
وداخل ميليشيا “الدفاع الشعبي” ظهرت ميليشيات أخرى أكثر تشددا، من بينها “كتائب الدبابين” التي تولى قيادتها قادة بارزون في حزب المؤتمر الوطني الحاكم، من بينهم علي أحمد كرتي الذي تولى وزارة الخارجية في فترة من فترات حكم البشير، وقبل الإطاحة بحكم الإسلاميين كانت “قوات الدفاع الشعبي” ميليشيا مكتملة الأركان لها مقرات كبيرة وفاخرة في مناطق مختلفة من السودان، ولها ميزانية ضخمة من الدولة (بعد الثورة تم حل “قوات الدفاع الشعبي” بقرار من رئيس “مجلس السيادة” الفريق أول عبد الفتاح البرهان ولكن كانت هناك شكوك بأن هذه الكتائب سلمت سلاحها بالكامل للجيش الحكومي).
اندلع القتال في إقليم دارفور مطلع 2003 وظهرت حركات مسلحة موازية ومتقاطعة مع جيش الدولة وكانت جيوش الحركات عبارة عن ميليشيات جنودها أبناء إثنية واحدة أو منطقة تضم إثنيتين أو أكثر. ومع الوقت كثرت جيوش الميليشيات في دارفور بدافع الطموح الشخصي لأبناء المناطق، كذلك ضربت التشققات والانشطارات الحركات المسلحة وظهرت ميليشيات صغيرة يقودها منشقون.
وفي أتون الصراع بين الحكومة والحركات المسلحة والميليشيات الصغيرة كان السكان يتعرضون لانتهاك مناطقهم ويهجرون منها وينهبون. وكردة فعل سعت القبائل إلى امتلاك السلاح وأنشأت ميليشيات من أبنائها لحمايتها وظهرت للمرة الأولى أسلحة ثقيلة ومدافع في أيدي ميليشيات القبائل وانفتح باب للسلاح. وفي حملة حكومية لجمع السلاح من القبائل والسكان في دارفور قدر بأكثر من مليون قطعة سلاح وتحول عدد من هذه الميليشيات إلى مقاتلين في الحرب الليبية مقابل المال.
ميليشيات قبلية لحراسة النفط
النفط الذي استخرج عام 1999 بات المورد الذي سيعتمد عليه “حزب المؤتمر الوطني” برئاسة البشير في توطيد أركان حكمه، ولسوء الحظ اشتعلت حرب واسعة النطاق في إقليم دارفور بعد ثلاث سنوات من تصدير البترول وبداية تدفق الأموال. ولما كانت هناك جبهات قتال أصلا مفتوحة في جنوب السودان والنيل الأزرق وجنوب كردفان، لم يجد الجيش سبيلا سوى تجييش القبائل في مناطق البترول لحمايتها من هجمات الميليشيات والحركات الدارفورية المسلحة أو من جيش المتمردين في جنوب السودان.
وفعليا تولى ضابط شهير ملقب بـ”ود إبراهيم”، مع ضباط من الاستخبارات والجهاز الأمني، مهمة تسليح قبائل المسيرية والرزيقات في جنوب وغرب دارفور. وفي عام 2012 تمردت القبائل في مناطق النفط على الحكومة ورفضت قتال الحركات المسلحة، لجهة أن الحكومة لم تفِ بالتعهدات المالية التي وعدتهم بها، واتهمت قيادات النظام في الخرطوم بالتخطيط لتصفية وتطهير المسيرية بعد أن قتل أكثر من 107 من أبناء القبيلة في معركة واحدة، وتمددت الجيوش القبلية وتحولت إلى مهدد لسلطة الدولة التي تجبر على أرضائهم بالمال ووعود التنمية.
الأخطر من ذلك تمرد أبناء القبائل على سلطة القبيلة والحكومة معا وتكوين ميليشيات صغيرة تهاجم شركات البترول. وتكررت حوادث خطف العاملين في التنقيب عن النفط من الصينيين وموظفي المنظمات الأجنبية، ولا يطلق سراحهم إلا بعد دفع فدية. وبعض الميليشيات أصبح لديها طموح سياسي وتم استيعاب قادة ميليشيات منشقة عن القبائل التي تسلحت بسلاح الحكومة في مناصب برلمانية أو وزارية وأصبحت الدولة تحت ضغط الميليشيات القبلية مقابل حراسة النفط والمشاركة في القتال في صفوف الجيش، وقطعا كانت لهذه السياسة مساهمة كبيرة في زيادة انتشار السلاح وتفلتات الميليشيات في المنطقة، غير أن الدولة لا ترعوي واتجهت إلى تأسيس ميليشيات بإمكانيات أكبر يمكن أن نصفها بـ”الجيوش الموازية”.
“الجنجويد” هي الميليشيا الأكثر إرعابا للمواطنين في دارفور، وقائدها موسى هلال المطلوب رقم واحد للمحكمة الجنائية الدولية. وتتهم ميليشيا “الجنجويد” بارتكاب جرائم حرب وجرائم تطهير عرقي وإبادة جماعية.
تأسست “الجنجويد” بعد حادثة مهمة للجيش، وهي مهاجمة مدينة نيالا للمرة الأولى من قبل جيش “حركة تحرير السودان” واختطاف قائد القوات الجوية برتبة لواء من المطار. وبعد أن أصبحت ميليشيا “الجنجويد” عبئا على الحكومة بسبب الطريقة الوحشية التي تعاملت بها وجرّت على قادة الحكومة بمن فيهم البشير تهما في المحكمة الجنائية الدولية، تقرر تغيير اسمها إلى “قوات حرس الحدود”، وهنا بدأت بدعة تأسيس الجيوش القبلية وتقنينها بالقوانين، واستقطب محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي وقواته للقتال تحت “لواء هلال”، و”قوات حرس الحدود” في 2004، غير أن خلافا نشب بين الرجلين وخرج حميدتي بقواته مغاضبا وعسكر في جنوب دارفور عام 2006.
وخوفا من تمرد حميدتي على الدولة، وإضافة إلى رؤية أجهزة الاستخبارات والأمن بأنه “يتمتع بصفات قيادية وله طموح في تكوين ثروة مالية أكثر من السلطة والزعامة، بخلاف هلال”، استدعاه البشير واجتمع به في منزله في القيادة العامة للجيش، ونجح في إعادته للعمل لصالح الحكومة، متعاونا مع زعيم المحاميد، بعد أن وافق على كل شروطه، وأطلق يده ويد أخيه غير الشقيق عبد الرحيم دقلو في تكوين “قوات الدعم السريع”.
إلا أن الأحداث تمضي بشكل دراماتيكي، حيث يتمرد هلال على البشير، ويهدد بقتال جيش الحكومة، ويرى البعض أن الخلاف كان على مورد الذهب، وتحديدا جبل عامر الغني بالذهب، والذي وضع هلال يده عليه، وقررت الحكومة نزعه ومنحه لحميدتي، ورفض هلال دعوات الصلح، وأرسل البشير حميدتي لإخضاع ابن عمه ودخل معه في معركة قتل فيها أحد أبناء هلال الذي قبض عليه وأرسل إلى الخرطوم ووضع في السجن إلى أن سقط نظام البشير.
البشير… و”قوات الدعم السريع”
لن ينسى السودانيون أحاديث وخطب الرئيس المخلوع عمر البشير الجماهيرية في حق “الدعم السريع” ومن أشهرها عندما قال مخاطبا حشدا غفيرا من الشعب: “ده ما حميدتي ده اسمو حمايتي”، في إشارة إلى أن قائد قوات “الدعم السريع” حميدتي هو حمايته من الأعداء. وعندما انتصر “الدعم السريع” على “حركة العدل والمساواة” في معركة “خور فرنقا”، قال البشير في خطبة النصر: “لمن فكرت أعمل قوات الدعم السريع قلت ليهم نادوا حميدتي وقلت ليهو داير خمسة آلاف شاب جاب لي ستة آلاف وما خذلونا أبدا”.
نشأت قوات “الدعم السريع” تحت رعاية وحماية الرئيس المخلوع البشير شخصيا، وظل يفتخر بهذا الأمر حتى قبل أسابيع قليلة من الإطاحة به، وعندما اشتد الخناق عليه من قبل الثوار في 2019 استدعى هذه القوات من دارفور لحماية حكمه منهم، وقال ضابط عظيم أحيل للتقاعد مؤخرا: “العلاقة تحولت إلى شخصية بين البشير وحميدتي”. وقد تمدد حميدتي بسبب هذه العلاقة. وتولى قيادة وتدريب “قوات الدعم السريع” ضباط من جهاز الأمن والمخابرات.
وفي عام 2013 أصدر البشير مرسوما جمهوريا قضى بتبعية “قوات الدعم السريع” إلى جهاز الأمن والمخابرات رسميا، وفي العام نفسه شاركت “قوات الدعم” مع جهاز الأمن في قمع احتجاجات شعبية بسبب الغلاء وقتل فيها أكثر من 100 شاب باعتراف الحكومة، إلا أنها قالت إن طرفا ثالثا مجهولا تسبب في قتلهم.
وقد ظلت “قوات الدعم السريع” بعيدة عن الجيش على الرغم من أنها تعمل على مساندته في القتال ضد الحركات المسلحة، ويعزى ذلك إلى مخاوف احتكاك بينها وبين الجيش الذي يرفض قادته تكوين قوات موازية.
جيش موازٍ بالقانون
تطور كبير حدث لـ”قوات الدعم السريع” عندما قررت السلطات فك الارتباط بينها وبين جهاز الأمن. وفي عام 2017 أجاز البرلمان قانون “قوات الدعم السريع” ووصفها بأنها قوات عسكرية قومية تتبع القوات المسلحة وتعمل تحت إمرة القائد الأعلى للجيش.
وبعد إجازة القانون تحولت “الدعم السريع” إلى قوة موازية للجيش، واعتمد عليها بشكل أساسي بوصفها قوات مشاة، وفتحت لها معسكرات تدريب في عدد من المدن وخاصة في دارفور، وحصلت على ميزانيات مفتوحة من الدولة ومنفصلة عن القوات المسلحة، وانتدب لها عدد من ضباط الجيش بينهم ضباط مخابرات عسكرية، وقفز عدد القوات بعد إجازة القانون إلى أكثر من 40 ألف مقاتل، وساهم في ذلك النفوذ المالي والسياسي الذي تحقق لقادة الميليشيا بمعاونة السلطات، مقابل القضاء على المتمردين في دارفور وكردفان. وحققت “قوات الدعم السريع” انتصارات كبيرة سمحت لها بفرض وجودها في المشهد.
تعاظم نفوذ “قوات الدعم السريع” السياسي بشكل ملحوظ وبات انتقادها أحد المحرمات في الدولة، وفعليا اعتقل قادة سياسيون وجهوا انتقادات لهذه القوات، من بينهم الراحل الإمام الصادق المهدي إمام “طائفة الأنصار” ورئيس “حزب الأمة القومي”، وأطلق سراحه بوساطة من ناشطين ومثقفين. وصرح حميدتي في خطاب جماهيري بأنهم يقاتلون نيابة عن الحكومة وجيشها، لذلك إذا أمروا باعتقال سياسي أو غيره يجب أن يعتقل، وعندما نشب خلاف معلن بين القيادي البارز بـ”حزب المؤتمر الوطني” الحاكم وقتها أحمد هارون، وقائد “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو (حميدتي) تدخل البشير شخصيا وعقد صلحا بين الرجلين.
وحصل “الدعم السريع” على امتيازات اقتصادية واسعة، في مقدمتها تجارة الذهب، بعد أن سيطر على مناجم عديدة في دارفور وخاصة جبل عامر الغني بالذهب، الذي حصل عليه بعد طرد السكان المحليين منه بالقوة، وقتل في معارك السيطرة عليه أكثر من 800 شخص، وتمدد في مناطق خارج دارفور بحثا عن المعدن الأصفر.
وتُتهم “قوات الدعم” بتهريب الذهب إلى دول الجوار والأسواق العالمية، لكنها تنفي هذه التهمة. وفي تقرير للأمم المتحدة ورد أن موارد “الدعم” تتجاوز 600 مليون دولار سنويا من عائدات الذهب. وقد وسعت هذه القوات نشاطها التجاري في المواد البترولية والغذائية والزراعة عبر شركة “الجنيد” أو شركات وأفراد يمثلون واجهات للنشاط الاقتصادي. وقد كان هذا الثراء الكبير أحد أسباب تدافع الكثيرين للعمل في صفوف “قوات الدعم السريع”.
شاركت “قوات الدعم السريع” في الإطاحة بالمخلوع عمر البشير في 11 أبريل/نيسان 2019. وقال حميدتي إنه رفض تنفيذ تعليمات بضرب الثوار، وأنه انحاز للثوار الذين هتفوا بإسقاط النظام، وعلى ذلك حصل على منصب نائب رئيس “المجلس السيادي” الذي يشغله الفريق أول عبد الفتاح البرهان. وقد سمح المنصب الجديد لقوات “الدعم السريع” بالوجود في العاصمة الخرطوم وإقامة معسكرات للتدريب داخلها وتضاعف عددها وبلغ أكثر من 100 ألف مقاتل وحصل على تسليح مختلف من الجيش.
شاركت “قوات الدعم السريع” في المجزرة المعروفة بـ “مجزرة فض اعتصام القيادة العامة”، الأمر الذي ساهم في رفض شعبي كبير لها بجانب الانتهاكات التي ارتكبتها خلال حكم الإسلاميين في دارفور وفي مناطق أخرى. واعتذر حميدتي عن الانتهاكات الحكومية في حروبها مع المواطنين، واعتقل قادة في جيشه بتهمة المشاركة في فض الاعتصام، كما ساند “الدعم” انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 على الحكومة المدنية وشارك في قمع الاحتجاجات الشعبية ضد الانقلاب، وقتل عددا من الشباب المطالبين بعودة الحكم المدني. غير أن القائد حميدتي تراجع عن الانقلاب ودعم “الاتفاق السياسي الإطاري” الذي طرحته القوى السياسية بديلا للانقلاب.
قوات الدعم السريع” التي تقاتل الجيش السوداني منذ 15 أبريل/نيسان تضاعف عددها مرات عديدة منذ تأسيسها في 2013. وعند اندلاع الحرب قدر عددها بـ100 ألف، غير أن الخبراء يشيرون إلى أنها تجاوزت 100 ألف بعد الحرب، وتقترب من 200 ألف مقاتل يقودهم محمد حمدان دقلو وأخوه عبد الرحيم. وقد تلقت “قوات الدعم” تدريبا مكثفا على حرب المدن، لذا استطاعوا أن يكسبوا جميع المعارك أمام الجيش السوداني.
يتهم “الدعم السريع” منذ اندلاع الحرب بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، من بينها جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، كما حدث في مدينة الجنينة غربي دارفور. كما يتهم بسرقة ممتلكات المواطنين وارتكاب جرائم في المدن التي دحر منها الجيش، ويسيطر على نصف الولايات الـ18 وعلى عدد من مقار الجيش والمواقع الاستراتيجية من بينها: مطار الخرطوم والقصر الجمهوري ومصفاة البترول.
من الملاحظات المهمة أن معظم الميليشيات في السودان كونتها الحكومات في لحظات ضعف الجيش السوداني لمساندته والقيام بمهام قتالية نيابة عنه.
والملاحظة الثانية أن هذه الميليشيات القبلية يتم تكوينها بمبررات نبيلة مثل حماية المواطنين، والدفاع عن النفس، وحراسة طرق التجارة والإمداد. ولكن سرعان ما تفلت وتساهم في زعزعة الأمن بدلا عن حفظه. والمفارقة المدهشة أن غالبية الميليشيات تأسست في ظل أنظمة عسكرية تحكم بالبطش، وعندما تقل قدرة الجيش على ذلك يستعين بالميليشيات لتلعب هذا الدور، غير أن عهد البشير شهد تأسيس أكبر عدد من الميليشيات، وانتشر السلاح في أيدي المواطنين بشكل غير مسبوق، ربما بسبب بقاء نظامهم في السلطة 30 عاما.
واشتمل عهد الإسلاميين على عدة اختلافات، أولها أن الميليشيات لم تكن تتأسس لمبررات نبيلة في كل الأحوال، لأن بعضها أسس لقمع المواطنين ومهاجمة القوات المسلحة. وكذلك من الملاحظات أن “جبهة الإنقاذ” انتقلت من تسليح ميليشيات محدودة وأسست جيوشا موازية للجيش السوداني لديها قانون تأسيس منفصل، وأسهم ذلك في تفشي ظاهرة تعدد الجيوش. وقد سعى المدنيون بعد الإطاحة بالبشير إلى إجراء إصلاح أمني وعسكري ينتهي بدمج جميع الميليشيات والجيوش الموازية في جيش واحد، لكن المؤسسة العسكرية قاومت هذا التوجه، ويرى البعض أن هذا هو أحد أسباب الحرب المشتعلة اليوم.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

error: