باج نيوز
موقع إخباري - أخبار اراء تحليلات تحقيقات بكل شفافية
Baraka Ins 1135*120

النقيب مهندس محمد أسامة يكتب: أعجبني … وكيف لا

1٬482

الشهيد الأمين ..في حضرة الملازم صديق

في القليل كُلنا أُمناء أتقياء، لكن الكثير هو الذي يكشف الصادق من المُدعي…

في صباح أحد الأيام المدرسة ، شهر يونيو من العام 2004،في الميدان الفاصل بين مدرسة القوز ٣ الأساسية،ومدرسة الحميراء الثانوية للبنات…و الميدان ممتليء بالباعة الذين يبيعون ما لذ وطاب، كنت حينها أنا طالب الصف الثالث أُخرِج ال20 قرشاً لشراء حلوى الشعيرية الموضوعة في ورق الجرائد،مالي يكفي لشراء قطعتين لا أكثر…لكن البائع غَفِلَ وأعطاني ثلاث أكياس بدلاً عن إثنين…
أعلم أن الحلوى شهية حينها لكن لا يمكنني أن أفقد أمانتي من أجل كيس شعيرية ،أخبرت البائع بالكيس الزائد وسرحتُ بخيالي كيف أنه سيشكرني ويشكر أهلي الذين أحسنوا تربيتي،بل كنتُ متأكداً بأنه سيدخل لمدير المدرسة -حينها المرحوم ومعلم الأجيال “عثمان شيخ إدريس”- ليخبره عن التلميذ الأمين ويمكن أن يُقرع الجرس لطابور مفاجيء للإشادة بتلميذ الصف الثالث بملامحه البرئية،وسيطالب بحضور ولي أمري لشكره أيضاً…
كل هذا لم يحدث منه شيئًا، إكتفي بمسح رأسي وإبتسامة مع كلمة “شكراً على أمانتك،خلي الكيس معاك”…

الآن دعك من 2003،تعال إلى 2023…
إذا كنت من الذين جاءوا إلى سلاح المدرعات بعد إسبوع أو عشر أيام بعد بداية الحرب ستسمع بذلك الملازم وقصته الشهيرة…
كانت القصة هي الصنف الحاضر لكل جلسات العسكريين في ميز الضباط،في قهاوي سوق الشجرة،وحتى الدفاعات وثكنات ضباط الصف والجنود…
صنفه البعض مجنوناً أضاع فرصة كبيرة لتغيير وضعه،وصنفه البعض أميناً صادقاً ومثالاً يُحتذى به…

الملازم”صديق” حديث التخرج،الصغير سناً والكبير فعلاً،يُجهز أفراده،يُتمم على أسلحتهم وذخائرهم فقد جاءته تعليمات بتواجد العدو في إحدى شقق حي جبرة…
المأمورية محفوفة بمخاطر لا تحدها حدوها، أضف على ذلك إنتشار القناصين فوق المبني وفيها ..البعض نعاه وحسبه في عداد الموتى لأن فرصة النجاح ضئيلة …
المفاجأة أنه نجح في مداهمتهم وقتلهم وأخذ منهم أسلحتهم وعدتهم وعتادهم،ومبلغ 24مليار جنيه، هذا إختبار حقيقي للأمانة وهنا يُعرف الرجال…
ببساطة أخذ المبلغ وكل ما وجده وسلمه لقيادة المدرعات..
أعتقد أنه لو أخذها كلها والرجال الذين معه فلن يلومه أحد وربما لن يعرف أحد…
أعطته القيادة منها 2 مليار كحافز على أمانته ومخاطرته،الغريب أنه أخذ حافزه وحل به مشكلة كل ضابط صف أو جندى جاءه في حاجة خاصة به أو أهله بحاجة لمبلغ للسفر خارج الخرطوم، وباقي المال دفعه لدعم وجبة الأفراد والضباط…
هذا هو الملازم “صديق”،شاب طويل القامة هاديء الطبع ،كسته الشمس سمرة نعرفها وتعرفنا،يصول ويجول في كل الأنحاء والجبهات في سلاح المدرعات،يتسلل إلى أعماق العدو في شارع جبرة وتقاطع البيبسي، يدخل إلى السوق العربي بدبابته في طريقه القيادة ،ينقطع عليه طريق الوصول إليها ..و بدلاً عن الرجوع إلى المدرعات يتجه إلى الإستراتيجية بالقرب من الإستاد،يضرب معسكر العدو بشارع الغابة منذ الظهر،يُحلل صيامه بجرعة ماء فقط ويكمل ضربه ويدمر معسكر العدو…
في يوم 21 أغسطس،أنا مصاب في مستشفى المدرعات بعد أن تم إخلائي بواسطة جنود أُدين لهم بحياتي لمخاطرتهم الكبيرة وكادوا أن يفقدوا حياتهم في سبيل ذلك..و مع النزيف وفقدان الدم تكون في وعيك لدقيقة،ثم يُغمى عليك…أفتح عيني بعد إغماء طويل لأجد الملازم صديق وقد إرتقى شهيداً أمامي مصاباً في رقبته،تعلو فمه إبتسامة راضية وسبابة في وضعية الشهادة …
رغم إصابته رفض جنوده تركه أيضاً ،بل وتجاسروا عليه لأول مرة وخالفوا تعليماته التي صرفها لهم وهو يلفظ آخر أنفاسه ليخرجوا ويتركوه، بصوت واحد قالوا “مخالفين يا سعادتك،يا مرقنا كلنا يا متنا كلنا”…

قال لي أحد جنوده ذات مرة “هذه المرة الأولى التي نسمع فيها الضابط يقول لجنوده إتبعوني،بدلاً عن قوله لهم تقدموا ،هذا رجل لا يمكن أن نتركه وراءنا ولو كان جثة “…كأنه يقول لهم كما قال الشاعر الكبير الكتيابي:
إفسحوا الدائرة حولي إنني مُلقٍ عصاي…
وأرقبوا يا قومَ قولي وأتَّبعني يا فتاي…

أسأل نفسي دوماً بعد أن روى صديق شوارع جبرة بدمائه وأستشهد مدافعاً عنها،هل تعود شوارع جبرة وشققها المفروشة وكافياتها المشبوهة للعهر والدَعَر الذي كان من قبل؟!،هل تعود ميادين جبرة لترويج المخدرات وتسهيل العلاقات الجنسية ،بعد أن رواها صديق ورفاقه وجنوده بدمائهم؟!…هل كان يفكر يوماً أنه من الممكن أن تعود لسابق فسادها؟!…هل كل هذه الدماء يمكن تُنسى كأن لم تكن ؟!…
ألن تتزين المقررات الدراسية بعد سنين بمقالات عنهم وقصص تُخلد ذكراهم ، أم سيأتي زمانٌ يسبهم معتوه ويقول بأنه ماتوا “فطائس”؟!…لو حاول صديق أن يسأل نفسه هذه الأسئلة لوضع سلاحه ومضى إلى بيته…
بعد الحرب هل سيأتي يوم يكابد فيه من بقى حياً من رفاقه الأمرين وهو يحاول ان يكمل شهره براتب لا يكفي إسبوعين؟! هل سيعانون من انتظار السنين لخطبة حبيباتهم؟! هل سيسمع العسكر وعسكر الملازم “صديق” أحداهم او احداهن تهتف العسكر مأجورة يا نورة!!! ؟!…

اعلموا ان هناك دائماً من يهبوننا حياتنا ويدفعون لاجل ذلك حياتهم بلا مقابل سوى من رب العالمين ..و هولاء هم الأبطال …
إلى صديق الذي ينام في قبره وحيداً في مقابر المدرعات، لن ننساك ، إن سِيَر الرجال يجب أن تكون تاريخاً يحكى ويدرّس ،ونبراساً يضيء عتمة الليالي…
إن مد الله في عمري بعد هذه الحرب ومطالب دين ٌ على تقديم واجب العزاء لاهله بولاية نهر النيل منطقة المناصير ، لأشكر أمه وأباه على حسن تربيتهم،فقد أخرجوا لنا رجلاً كثير الوقار…. مهيباً أغر…

لو لم تنجب القوات المسلحة غير الملازم صديق لكفاها،ولو لم تنجب الدفعة 67 غيره لكفاها أيضاً…

جميعنا أُمناء في أكياس الحلوى البسيطة. ،و لكن امام ثروة تبلغ 24 مليار جنيه ، يظهر معدن الرجال من نوع صديق…
ألا رحم الله صديق وأسكنه فسيح جناته،اللهم إنه قد مات دون أرض وعرض ومال المستضعفين في الأرض من الرجال والنساء، اللهم تقبله شهيداً عندك، ربِ ما علمنا عليه سوءاً قط…فأكرمه بجنة عرضها السموات والأرض ، وأكرمه بنصرٍ يُحكى لجيشه ووطنه.

#صديق_شهيداً

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

error: