بشارة جمعة أرور يكتب: الإثنية وركائز التحول الديمقراطي
العلاقة بين الديمقراطية والإثنية أو القبيلة علاقة وطيدة بإعتبار أن الإثنية أو القبيلة عنصر أساسي من العناصر المكونة للدولة القومية التي هي بدورها الوحدة السياسية التي نشأت وتطورت الديمقراطية في إطارها كصيغة للحكم.
وأذا أمكننا إعتبار الديمقراطية نوعاً من أنواع إدارة الإختلاف في إطار الوحدة في التنوع بالتراضي على حرية التعبير والإختيار بحيث لا حرية دون الإلمام بمعنى ومفهوم الحرية والإدراك الكامل بالمسؤوليات المصاحبة لممارستها،ولا حرية في العبث بمقدرات الوطن. فان نجاح الديمقراطية يتوقف لحد كبير على فهم مدى التناقض الذي ينطوي عليه الإختلاف…،لذلك من الضروري بل من اللازم في تقديرنا وجود عوامل توحد محور الولاء للعناصر المكونة للوحدة السياسية( الدولة) بحيث تكون الاختلافات بينها دون الصدام والمواجهة العنيفة،تناقضات ثانوية يمكن تداركها وإدارتها بالتفاهم سلمياً.
فواجب القيادة هو السعي المتجرد لإحتواء الأزمات وبتر أسبابها وليست التمحور حول الذات وإتهام الأطراف الأخرى بالفشل والاخفاقات،أجل فإذا سرنا في طريق نبش الماضي القريب والبعيد وننكأ الجراح القديمة التي نأمل أن نودع حملها الثقيل ولياليها المظلمة، سنكون بإستمرار دعاة الفتنة والعودة بالوطن إلى أتُون الصرعات الدامية والحروب اللعيبة التي تشتعل كلما شارفت سابقاتها على النهايات لتضع أوزارها…،إننا بهذا نقدم دعوة صادقة وندعو لتعقل الكبار والصغار بالتريث ونطالب الجميع بعدم السير في هذا الطريق الخطير الذي حتماً سيقود الكل الى إسراج خيول الجهوية والقبلية…، ونصدقكم بأننا لا ولم نسع مطلقاً للتجني على الحقيقة أو لمكايدة طرف…، فقد كان دأبنا وما زال وسيظل بإذن الله تعالى تحري الموضوعية في طرح الرؤى والأفكار والصدقية في تناول القضايا والمشاكل وإن كانت بلغة لاذعة أحياناً حيث يلزم الأمر بقصد إبانة الحقائق حول قضية ترتبط بها مصائر الجميع…،فالذي نستهدفه هو سرد الحيثيات والوقائع للإستدلال والتوضيح وإصدار منطوق الحكم على ما نتناوله وفق الحجج والدفوعات،وحري بنا القول توطئة لطرحنا إننا لا نجنح للمزايدة لتسجيل مواقف سياسية مغازلةً للرأي العام مثل كثير من الساسة،كما لا نلهث وراء الأماني السندسية التي يصعب تحقيقها لكثير من الواهمين ولا نقول أننا سننجز المطلوبات المرحلية التي يستحيل بلوغها في ضوء المعطيات الظرفية الماثلة، ولا نذيع سراً إلتزمنا بكتمانه ولا نخون عهداً قطعناه أمام أحد،إذ نقول إن ما يرد هنا يمثل عرضنا الخاص للمفاهيم والتقديرات لجوهر الرؤية الموضوعية والتوقعات المستقبلية لتحقيق الأهداف،والتناول النظري والمعرفي لمختلف القضايا على الساحة الوطنية.
ويقيننا أن النظر إلى قضية الديمقراطية وعلاقتها بالإثنية بعين رجل الدولة الناظر إلى الأفق الإستراتيجي بإحتمالاته، لا بعين الرويبضة أو النشطاء وأعداء الحقيقة أولئك الذين لا ينظرون إلا تحت أقدامهم ولا يكادوا يميزون بين المصلحة العامة ومصالح ذواتهم الفانية، نعم إنهم ينظرون للمصالح الآنية فقط دون النظر في تعقيدات الجغرافية السياسية والإثنية والقبيلة في الدولة السودانية إبتداءً من الإحباط الناتج عن الهوة الواسعة بين الواقع والتحديات الكبيرة والطموحات والتطلعات التي بنيت عليها آمال عراض،وبؤس ما يعايشه الشعب السوداني فعلياً والذي لايمكن إخفاءه ولا الهالات السوداء التي تكسوها، وهذا ما تفضحه الأيام بإستمرار.
إن مثل هذه الأمور حتماً ستقود على الأرجح لتجدد الصراعات بين الفينة والأُخرى إن لم يكن في شكل تمرد مسلح ففي شكل توتر إجتماعي وسياسي كما تبدو نذره واضحة اليوم، فلا مناص إذاً من تدارك الأمر بوعي وتجرد سيما وأن إتفاقية السلام تراوح مكانها…، ومعلوم للجميع أن الأسباب الموضوعية التي أعاقت التطور الديمقراطي في السودان تمثلت في ضعف الوعي السياسي وسيادة المجتمع التقليدي والطائفية على المشهد طيلة فترة ما بعد الاستقلال ثم ازداد الأمر سوءاً وتراكمت الخسائر البشرية والمادية عندما تهافت القوم وسقطت فسيفساء القوى السياسية في امتحان تحمل المسؤولية الوطنية لبناء الأمة، وبالكس استغلت الفترة الانتقالية حتى أستنفدت تجارب الرسوب التاريخي بإشعال نيران الحرب،الأمر الذي جعل ممارسات المؤسسات الحزبيّة التقليدية تنجر وراءها في تناقض واضح لمتطلبات المرحلة.
فالحداثة والتطور في تنمية الموارد البشرية التي تعتبر المحفزات الأساسية لاستقطاب الشباب في مغامراتهم الفكرية والسلوكية وتنمية قدراتهم ومهاراتم من أجل بناء المسقبل تحتاج لسعة البال ورحابة صدر…،ومهما يكن من شيء فقد بقي الحديث عن أسباب تعثر الديمقراطية دائماً دون الإحاطة اللازمة وذلك لإتساع مساحة المسكوت عنه في التعقيدات الجوهرية للخطاب السياسي…، وتعرضت الديمقراطية بمعناها البسيط كصيغة للحكم لصعوبات جمة في تاريخنا السياسي وأدت لإجهاض تجاربها في الحكم ثلاث مرات بإنقلابات منذ الاستقلال كما هو معلوم.
والبعض يرى أن التعديات على نظم التعددية الحزبية ما هي إلا أخطاء غير مبررة إقترفتها العناصر المغامرة بإستغلال القوات المسلحة وضعف الوعي السياسي لدى القاعدة الجماهيرية لفهم المشاكل السياسية،وليس هناك أدل على ذلك من التجهيل والخبث والفهلوة في استغلال ضعف الوعي والتباين الطبقي والثقافي والاجتماعي،لتمرير المواقف السياسية وتشكيل جبهة الرأي العام،والفجوة الواسعة بين النخب والشعب تؤكد ذلك حيث ظلت تخادع بمقولة الديمقراطية لا تعالج إلا بالديمقراطية ذاتها،وللأسف هي لا تمارسها في نفسها ولا في مؤسساتها الحزبية…،في تقديرنا إن تلك المقولة وذاك الرأي ينطوي على قدر كبير من المثالية والتقليد الأعمى المستنسخ من الغرب بلا تبصرة وفهم أو إدراك لِكُنه ممارسة الديمقراطية لذلك لا يمكن أن تستمر هذه الفذلكات والتضليل بالممارسات الصورية الزائفة والإدعاء الباطل بأن هنالك فترة ديمقراطية أولى،ثانية وثالثة مرت على البلاد بينما في الحقيقة كلها كانت صورية وشكلية،وما كان للعناصر المغامرة أن تجهز على الديمقراطية مالم يتوفر لها قدر من شرعية الرضا العام من الأتباع في الإدارات الأهلية والولاء الطائفي،حتى وهي تعتدي على الشرعية الدستورية كما هو مجسد اليوم من قبل أولئك الذين تشدقوا وتزبدوا زوراً وبهتاناً بإسم التغيير والتحول الديمقراطي تجسيداً لما أشرنا إليه،أما آن لهذه العناصر أن ترعوي؟؟!!
وإذ نستشرف المستقبل بأمل إرساء دعائم راسخة لديمقراطية مستدامة في عهد الإنفتاح العالمي…،وبالرغم من ضراوة الحرب فليست ثمة ما يجدينا أكثر من الشمول في الطرح والتعمق في تناول الأمور المرتبطة بالديمقراطية ومن هنا تنبع أهمية ركائز التحول الديمقراطي لأجل بناء واستدامة ديمقراطية راشدة تستجيب لتطلعات الشعب السوداني في الحرية،السلام والعدالة تليها الاستقرار والتنمية تحت ظلال وحدة الصف والكلمة.
فالإستفادة من الإخفاقات وتجاوز المشاكل البنيوية التي واجهت النخب الحزبية التقليدية ركن أساسي على الأقل في معالجة ضعف عزيمتها لتبني وتفعيل المفهوم السليم للديمقراطية على حساب المصالح السياسية الآنية،فالديمقراطية في جوهرها ليست هيكل وأشكال من تجمعات تسمى أحزاب وانتخابات دورية، وإنما هي نسق مؤسسي متكامل ومتناغم بقيمه وأفكاره وهياكله بحيث يرتبط المفهوم العام للمصالح الوطنية في تصوراته بإجراءات وآليات التنظيم الداخلي،بدون تنازع الأهداف الكلية في الدولة بين مصلحة مؤسسة ما ومصالح مؤسسات أخرى.
ويعتبر الوعي بالمصالح العليا والإختيار الحر وفق هذا الوعي أموراً جوهرية في هذا النسق وترتيباً على هذه الحقيقة فإن الوظيفة الأساسية لهذا النسق المؤسسي المسمى بالديمقراطية هي تلبية المصالح الاقتصادية، الاجتماعية،الثقافية وغيرها من خلال ما يطرح من بين البرامج المطروحة للحكم.
وبهذا المفهوم فإن الديمقراطية ليست بناءاً فوقياً يفرض من علٍ بواسطة النخبة القائدة التي لم تتعلم ولم تعي بعد التطورات والمتغيرات التي جرت تحت الجسور الممتدة حاملة الاطنان من الأحداث والمواقف والتطورات المعقدة…،ونحسب أن أهم الركائز في تحقيق التحول الديمقراطي ولتغيير واقعنا إلى المرتجى والمنشود،هو حسم الكثير من القضايا الجوهرية التي كانت تعتبر مطالب ملحة لغالبية أقاليم و ولايات السودان وفئاته الاجتماعية مثل:قضايا اللامركزية الحقيقية وأسس القسمة العادلة للثروة والتمثيل المتوازن في السلطة المركزية والخدمة المدنية واعتماد الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كما هي في المواثيق الدولية تشكل في جملتها الركيزة الأساسية لديمقراطية ذات مضمون اقتصادي واجتماعي وثقافي ويجب أن تكون مكفولة بالدستور حتى لا تكون رهينة لسياسات الأحزاب والجماعات.
والركيزة الثانية والمهمة لديمقراطية فعالة نجملها في( إصلاح النظام الانتخابي، تأسيس النيابة بصورة رئيسة على التمثيل المباشر للإرادة الشعبية وتقليص المقاعد الفئوية لأقصى حد ممكن، إعادة تكوين وتأسيس الأحزاب والتنظيمات السياسية وفق قانون محكم وضوابط صارمة مع وضع التدابير العملية اللازمة لدعم الأحزاب من أجل تطويرها كمؤسسات ضرورية لديمقراطية حقيقية، إلى هنا نكون قد أشرنا إلى الركائز الضرورية والمهمة من أجل تحقيق التحول الديمقراطي الحقيقي.
ولكن السؤال الجوهري الذي ينبغي طرحه والوقوف عنده ويجب على الجميع الاجتهاد في الإجابة عليه هو،ما هي ضمانات التحول إلى ديمقراطية حقيقية في ظل إشتداد نيران الفتنة واضطرابات الفترة الانتقالية والواقع الأليم الذي تعانيه الشعب السوداني إذ أن النظرية شيء والواقع شيء آخر خاصة في السودان؟! الإجابة:
أولاً / التعقل في إتخاذ المواقف والقرارات وكبح جماح العصبية حيث أصبحنا على مقربة من مُنـعرج اللوى وربما لا نستبين النصح إلا في ضحى الغد،لطالما الكثيرون جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يستمعوا إلى صوت العقل فاستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا وتعاظموا عن الإذعان للحقّ،وقبول النصيحة فمنهم من مضوا إلى الخارج والأجانب ومنهم من تخندق وتمترس خلف المواقف المتصلبة وسجن الأوهام.
ثانياً/ استنفار الحكماء والعقلاء لوأد بنات أفكار الإنفصاليين والجهويين الجدد من كل الجهات،وليس ثمة من سبيل غير مواجهة ومصادمة بنات الدهر بالصبر والمثابرة.
ثالثاً/ المصالحة الوطنية الشاملة.
رابعاً/ صياغة عقد اجتماعي ودستور متفق ومتراضى عليه مع الإلتزام الكامل بالتنفيذ واحترام القانون.
خامساً/ التحلي بالروح الوطنية مع قبول الآخر.
والإنسان لا قيمة له دون الالتزام بمنظومة القيم والمبادئ الأساسية التي تنظم شؤون الحياة العامة.
إذاً التحول الديمقراطي عبر حوار سوداني سوداني هو المخرج الآمن لإنهاء حالة الإقتتال والاحتقان وإنسداد الأفق السياسي.
#السودان وطن يسع الجميع.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.