عبد الله علي إبراهيم يكتب: الحرية والتغيير.. انسلات من محنة السودان كالشعرة من العجين
وفرت الندوات التي عقدتها قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) [قحت] في مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني بالعاصمة القطرية الدوحة، وبالتعاون مع قناة الجزيرة مباشر، فرصة غير مسبوقة لعرض آراء مدروسة حول موقفها من الحرب التي ألمّت بالسودان.
عرض هذه الآراء بابكر فيصل، رئيس التجمع الاتحادي، وعمر الدقير، رئيس المؤتمر السوداني، والواثق البرير، الأمين العام لحزب الأمة، وطه عثمان، القيادي في تجمع المهنيين. حيث تناول هؤلاء الاتهامات الموجهة لهم بالتحريض على الحرب والأحداث التي سبقتها، وتهمة موالاة الدعم السريع، نتيجة توقفهم عن إدانته لانتهاكه أعراف الحرب. وقد قدموا دفوعات في مواجهة هذه الاتهامات.
قسّم بابكر المؤيدين للحرب، إلى ثلاث جماعات؛ هي:
المؤتمر الوطني والإسلاميون، الذين يسعون للعودة إلى الحكم من خلال الحرب.
سكان مدن مثل: الخرطوم والجنينة وأخرى في دارفور، الذين تضرروا مباشرة من فعاليات الدعم السريع، ووصفهم بأنهم كثيرون، ويقودهم الحماس العاطفي للدعوة إلى استمرار الحرب.
جماعة من أهل الرأي، التي قد تبدو حججها مقنعة ظاهريا، لكنها غير متزنة في الواقع، فهم يدعون بلا خلاف معهم إلى أن يحتكر الجيش السلاح، كونه الممثل الشرعي للدولة.
وهذا تمييز للجيش قاموا هم أنفسهم بإدخاله في الاتفاق الإطاري. اتفق بابكر معهم في قولهم، إن المساس بهذا الاحتكار سيؤدي إلى عواقب وخيمة في تحلل الدولة. ولكنه اختلف معهم في نقطة؛ فدعوتهم لاستمرار الحرب، في نظره، هي التي ستؤدي إلى هذه العواقب التي بدأت تظهر. فوقف الحرب، وهو ما يدعو إليه (قحت)، هو الأمر الوحيد الذي سيحافظ على هيبة الجيش واحتكاره للسلاح، ويحمي البلاد من التفكك ومن عواقب الحرب التي يخشاها أهل الرأي.
سنتجاوز هنا عن صمته عن أنه ربما كان هناك من يريد استمرار الحرب في الدعم السريع، أو بين أنصاره غير القليلين.
يثير استغراب القارئ تقسيم بابكر دعاة الحرب ومؤيديها إلى ثلاث جماعات، خاصة عندما شمل فيها الجماعة التي تضررت مباشرة من الحرب بسبب انتهاكات الدعم السريع لأراضيها وأبنائها. فهل هناك من جماعة لم تتأثر مثلما تأثرت هذه الجماعة؟ فأكثر أفرادها تعرضوا للتجريد من الممتلكات والأموال، والإهانة التي وصفها بعضهم بـ”الحُقرة”. وحتى الجماعة التي رفعت شعار “لا للحرب” لم تسلم من تلك المعاناة التي تعرضت لها الجماعات المؤيدة للحرب.
وتبويب بابكر لمؤيدي الحرب، بالنظر إلى كلمة “هوينة” باللهجة السودانية، يشير إلى تلك الجماعة التي “حُقرت” بفعل الدعم السريع، وقصر هذا التهوين على الجماعة الثانية، التي قيل إن “العاطفة” هي التي دفعتهم لدعم استمرار الحرب. هذا التقسيم يعدّ تقليلا من حجم المأساة التي تعرضت لها ضحايا الحرب، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين. فقد انهالت قوات الدعم السريع ليس بسرقة ممتلكاتهم فقط، بل استباحوا المدينة كلها، وأتاحوا الفرصة للمتطرفين من مختلف الأطياف، ليكملوا ما بدأه الجنجويد من أعمال تدمير.
فتصوير هذه الجماعة، التي تؤيد الحرب، كأن تأييدهم نابع من “عاطفة” فقط بسبب ما فقدوه، يعدّ تصويرا غير عادل. هذا التصوير يشبه محاولة تقليل حجم المأساة التي تعرضوا لها، كأنهم قد فقدوا (ألبوم) صور لأسرهم. وهو ما يُذكرنا بالطريقة التي يستخدمها الأميركيون للتعبير عن الأضرار النفسية التي يمكن أن تسببها الكوارث الطبيعية؛ مثل: العواصف والزلازل.
لم يكن هؤلاء الذين استولى الدعم السريع على أملاكهم في الجنينة والخرطوم مجرد مدنيين تعرضوا لنيران الحرب، بل كانوا مستهدفين ضمن ثقافة معينة، حيث لم يُخف الدعم السريع نيته في استهدافهم بناء على هوياتهم العرقية والسياسية. فالأشخاص في الخرطوم الذين يُعدّون “جلابة” وفقا لهذه الثقافة، هم الذين تمتعوا وازدهروا منذ تأسيس الدولة في 1956. ولن تستطيع برامج الدعم السريع السياسية، التي تروج للديمقراطية والحياة المدنية، التي يدعمها مستشاروه، أن تخفي هذه الحقيقة؛ فجنود الدعم السريع يعلنون عن تدميرهم لمكاتب تسجيل الأملاك في كل مدينة يدخلونها، في محاولة لإخفاء أدلة ملكية الأملاك التي يستولون عليها.
لا تظهر الفكرة التي قدمها بابكر حول تأثر ضحايا عمليات الدعم السريع بـ”العاطفة المفرطة” كأمر غريب، إلا عندما نتعامل مع مفهوم “التطهير العرقي” لتفسير ما يتعرض له سكان الخرطوم على يدي الدعم السريع. وهذا هو المفهوم الذي يُستخدم -أيضا- لتحليل ما حدث في الجنينة، حيث عمدت قوات الدعم السريع والجنجويد إلى تبديل أصلي المدينة بـ”أهلا” فعدّوهم أفضل من السكان الأصليين لسنوات عديدة.
ولا أجد مثالا في عنونة مثل هذه الشعواء العرقية والسياسية أدق مما جرى لليهود في “ليلة الزجاج الهشيم” (9-10 نوفمبر/تشرين الثاني 1938). وهي باكورة شرور الهولوكوست على اليهود في ألمانيا. في تلك الليلة هاجمت فرق شبه عسكرية من شباب النازيين دور اليهود ومحالهم التجارية ومستشفياتهم ومدارسهم، وهدموها بالمطارق، وكسروا نوافذها بعد سماعهم نبأ مقتل دبلوماسي ألماني على يد شاب يهودي في باريس. تناثرت شظايا الزجاج الهشيم في الطرقات، ومن هنا جاءت تسمية ذلك اليوم الشؤم على اليهود. حصروا خسائرهم في أكثر من مئة قتيل، و638 منتحرا من فرط العار، وهدم 267 معبدا في ألمانيا والنمسا، و7000 محل تجاري، واعتُقل 3000 يهودي.
لا يخفى أن هذا العدوان ربط بين هوية عرقية وثروة، معتقدا أنها تأتي من لؤم أهل تلك الهوية. وكتب صحفي عن “ليلة الزجاج الهشيم”، “ليس هناك دعاية أجنبية ترغب في تلطيخ سمعة ألمانيا أمام العالم، كانت قد نجحت بالنجاح نفسه تلك الليلة، من الحرائق والخراب والعدوان على مواطنين أبرياء عزل، فقد غمرت سمعة ألمانيا في الدنس”. ولم ير العالم شكوى اليهود من ذلك العدوان “عاطفة”، بل جريمة حرب وإنسانية. واضطر العالم لاختراع اسم لها بعد هزيمة النازية، وخلال محاكمات نورنبرغ للنازيين: جنوسايد (geno، الذي يعني القبيلة أو العرق، وcide، وهو القتل)، أي العدوان والقتل بناء على الهوية العرقية أو القبلية أو الوطنية. وأصبحت هذه الجريمة معترفا بها في الحروب وخارجها.
ولا أعتقد أن هناك من قال، كما زعم بابكر، إن اليهود وقفوا بجانب استمرار الحرب العالمية الثانية مدفوعين بالعاطفة. إذ لم يتعرضوا لما عانوا منه بسبب ذنب فعله أحدهم شخصيا. بل كانوا جميعا يحملون ثقل ذلك الذنب بالتساوي. فما فقدوه لم يكن فقط مالا أو عقارا. فقد تعرضوا لكوارث طبيعية أكبر من ما تسبب به الدعم السريع، والعوض على الله. ولكن تجريد الإنسان من هويته يعدّ إهانة عظمى.
وأخشى أن تكون زلة اللسان التي أطلقها بابكر بخصوص انحلال الجيش الأثيوبي أمام جيش تحرير تيغراي في 1991 زلة فرويدية. فقد قال، إن تفكك البلاد لن يأتي نتيجة هزيمة الجيش السوداني كما يزعم مؤيدو استمرار الحرب، ولكن بالعكس، ما سيفكك البلاد حقا، حسب قوله، هو استمرار الحرب والاستقطابات المناطقية والإثنية والدولية التي ستنشأ بسببها. وبنظره تأتي دعواهم لوقف الحرب لتجنيب الجيش الهزيمة، خاصة أن الحرب لم تنته بنصر حتى الآن.
ولا أدري لماذا استبعد هزيمة الدعم السريع على يد جيش يتوقع أن يكون له احتكار السلاح ممثلا شرعيا للدولة. إذ هذه القضية، التي قال بابكر إنها غير قابلة للجدل، وأنها مضمنة في الاتفاق الإطاري، وشدد عليها. فلماذا هذا التحفظ على دعم الجيش حتى ينتصر، إذا كانت هذه القضية حقا، وأن الحرب اندلعت في إطارها، مهما كان دور الإسلاميين فيها؟ وما السبب وراء هذه الشفقة التي يظهرها بابكر تجاه الجيش، الأمر الذي يمنعه من أداء واجبه في الحرب لضمان حقه في احتكار السلاح، خاصة أن الحرب لم تأت بنتيجة حتى الآن، على الرغم من جهود قحت المستمرة لحل الخلاف عبر الاتفاق الإطاري؟
وقد تقدم بعض الناس في التعجب من مثال بابكر عن أثيوبيا، التي خرجت من حرب يونيو/حزيران 1991 بعد أن هُزم جيشها الشرعي أمام جيش تحرير تيغراي بقيادة ملس زناوي. فما الهدف من استشهاد بابكر بالمثال الأثيوبي، علما أن أثيوبيا أعادت تشكيل جيش جديد بعد هزيمة جيشها الأول؟ ماذا أراد أن يقول بابكر بذلك؟ هل كان يحاول تهدئة مخاوفنا من تفكك البلاد في حال هزيمة جيشنا، معتقدا أن المستقبل سيكون أجمل؟
اتفق طه عثمان والواثق البرير مع بابكر فيصل في تحميل الإسلاميين مسؤولية إشعال الحرب الدائرة، مع تفاوت في التأكيد على الأسباب نفسها. فرأى الواثق أن تحديد من أطلق الرصاصة الأولى يجب أن يرفع لجنة تحقيق، لكنه يميل شخصيا إلى الاعتقاد بأن الإسلاميين هم من أشعلوا الحرب حتى إشعار آخر. أما بابكر وطه، فهما من الرأي القائل بأن الإسلاميين هم من بدؤوا الحرب بغية استعادة السلطة. وكل أسبابهم تتفاوت في قوتها عند تحميل الإسلاميين المسؤولية، وإشراك الجيش في الحرب.
لكن من الملاحظ أن الثلاثة ذكروا واقعة مطار مروي في 12 أبريل/نيسان الماضي، أي قبل بداية الحرب بيومين، ولكنهم لم يتوقفوا عند تفصيلاتها إلا بقدر ما يظهر من مظاهر التعبئة. ففي ذلك اليوم، أرسل حميدتي قوات إلى مطار مروي بشمال السودان، مسوغا ذلك بوجود قوات جوية مصرية هناك، وبأنه يخشى استخدامها ضده. وأُبلِغ وسطاء من الحرية والتغيير بأن الجيش كان قلقا من تحرك هذه القوات إلى مروي.
والتزموا به أن يحملوا الدعم السريع إلى سحب قواته من مروي، وأن يسحب الجيش القوة المصرية في الوقت نفسه. ثم انقطعت الصلة بين الجيش والدعم السريع، فلم يتفقا على شيء في خلافهما. وتحركت القوة إلى مروي بمئة مركبة على أي حال. فأصدر الجيش بيانا يصف تحرك قوة الدعم السريع بأنه “تمرد”، ورد الدعم السريع عليه قائلا، إن ما اعترض عليه الجيش يأتي من صميم مهام وواجبات تضطلع بها كونها قوات قومية، وأنها مكفولة بقانونها، وبالتنسيق مع القوات المسلحة. احتل الدعم السريع المطار في 15 أبريل/نيسان الماضي، واضطر للانسحاب منه في 16 منه بعد أسر جنود مصريين، وتدمير مقومات المطار، وحرق الطائرات الموجودة به.
لا أدري لماذا تجاوز المتحدثون واقعة مروي متجهين مباشرة إلى حادثة حصار القوات المسلحة لمعسكر الدعم السريع في المدينة الرياضية؟ وهي التي يرون فيها أن الرصاصة الأولى أُطلقت من الجيش أو ربما من الإسلاميين. فمن وسطاء الحرية والتغيير، لا أجد من وجه سؤالا للدعم السريع بشأن تدخله في طلب سحب الفرقة المصرية من مروي، وكأن الدعم السريع يملك الحق في التدخل في قرارات القوات المسلحة التي يفترض أن لها الحق في تكوين أي علاقات ترغب فيها مع أي طرف.
ومن المعروف أن هذه الفرقة المصرية قد وصلت في مارس/آذار 2023 لإجراء تدريبات عسكرية ومناورات جوية مشتركة مع القوات المسلحة، وذلك في إطار استعدادات مصر والسودان تجاه التطورات المحتملة بشأن سد النهضة. وهذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها ذكر مروي في خطاب الدعم السريع. ففي مارس/آذار 2021، سبق أن منعت القوات المسلحة الدعم السريع من إقامة معسكر له في مروي. وعُرف حينها أن عبد الرحيم دقلو، شقيق “حميدتي” ونائب قائد الدعم السريع، قال إنه سيدخل مروي بالقوة، مما أثار غضب كثيرين. لكنه عاد واعتذر قائلا: “مروي الكرم والشجاعة ما في زول بدخلها زندية ” يقصد أن مروي، مدينة الكرم والشجاعة، ولا يمكن لأحد أن يدخلها بالقوة أو بالعنف.
إذا سلّمنا أن للدعم السريع شعورا بالنقص بالنسبة للقوة الجوية، فربما نستطيع فهم السبب الذي دفعه لتحرك قواته نحو مروي قبل اندلاع الحرب بيومين، حتى إنه أعلن عن احتلال مطار مروي ومطار الخرطوم في بيان واحد. ومطار مروي من أحدث مطارات السودان، والهدف من إنشائه كان كي يكون بديلا لقوات الجيش الجوية في حال حدوث أي طارئ يؤثر في قواعدها حول الخرطوم. لذا كان نية الدعم السريع أن يُخرج مطار مروي من دائرة الخدمة بما أنه يقع على بُعد من الخرطوم، ليتمكن من التركيز على مهاجمة قواعد الجيش الجوية الموجودة في الخرطوم.
إذا تمكنا من تحديد نقطة الضعف للدعم السريع حول ما يتعلق بالقوة الجوية خلال أي مواجهة مع القوات المسلحة، فقد نفهم الدوافع وراء إعطاء مروي تلك الأولوية في إستراتيجيته الحربية. هذا الإدراك قد يساعدنا على فهم التوترات بين الجيش والدعم السريع قبيل اندلاع النزاع، وهي توترات قد تغيب عن ملاحظة المدنيين، أو “الملكية” باستخدام مصطلح العسكر. وقد ظل الهدف الأساس خلف هذه الاحتكاكات هو الضغط على الجيش لسحب القوات المصرية من مروي، حتى يتمكن الدعم السريع من الانسحاب منها.
لا شك في أن حصار الجيش للمدينة الرياضية، وهي من أبرز معاقل الدعم السريع التي استأجرها قبل شهور من الحرب، له دور مهم في تحليل من بدأ الحرب. غير أن معنى احتلال مطار مروي قد يقدم لنا رؤية أشمل حين نرغب في الإجابة عن السؤال: من بدأ الحرب؟
كانت أحاديث “الحرية والتغيير” في قحت دفاعا عن مواقفهم خلال الحرب، مع استثناء الهجوم حين طرأ الحديث عن “الفلول”. فإذا احتاجت قوى الحرية والتغيير إلى هذا القدر من الدفاع عن مواقفها، فهي بحاجة أكبر إلى الشفافية تجاه الذات بجانب الدفاع عنها. الأخطاء التي أثرت في السودان وكانت قحت من المشاركين فيها، ربما أدركت أن الشفافية هي أفضل وسيلة للدفاع. لا يمكن لقحت الخروج من هذا الخراب بيديها نظيفتين، فهي تدافع عن نفسها مثلما يحاول الإنسان إخراج شعرة من عجينة. وكان النقد حادا عندما قال البرير، إن “الفلول” عادوا من بوابة الارتباك الذي أصاب قحت في تفكيك دولتهم وحزبهم، تاركين الأمور دون رقيب أو حافظ. ولكن عندما سمعت انتقادات قحت لدور الإسلاميين في الحرب، وكتائبهم الجهادية؛ مثل: “البراء” في معارك المدرعات، والنفوذ الطاغي لهم في الجيش وبقايا الدولة، تتضح الصورة أن الشكوى ليست عن “فلول” فقط حسب تعبيرهم، بل هي عن جهة لها نفوذ وقوة وذكاء. ويظل في ذهنك أن اتهامهم برغبة العودة للحكم عبر الحرب لا أساس له من الصحة. فدولتهم -التي تعترف قحت بقوتها- لم تَغِب عن الساحة حتى تحتاج لاستعادتها.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.