الصديق النعيم موسى يكتب: أيام في الحرب ( 3 ) !
في الليلة الثانية للحرب إستهدفت قوات الدعم السريع الكهرباء ظننا أنها القطوعات الدورية وبعد أن حلّ الصباح علمنا بضرب الأعمدة وعلى إثرها تضررت الأمية والأسلاك ملقية على الأرض ، دخلنا في مرحلة جديدة من المُعاناة مع إنقطاع الكهرباء فقدنا الماء أيضاً ، عادتي دائماً ألا أترك إناءً فارغاً ، قمت لصلاة الصبح مُستخدماً (جردل ) المياه ، وسخانة الخرطوم تشتد مع إنعدام المياه من الصباح الباكر أدركت أنَّ الأزمة مُستفحلة لا مُحالَ ، فأللحروب قواعد وأعراف معلومة وما حدث ليلة الأمس ما هو إلاّ نذير شؤم على سُكان الخرطوم وليس منطقتنا فحسب ، قام بقية أصدقائي من النوم ولم يجدوا الماء ، أحدهم يقول لي : ( يازول قطعت ولا شنو ؟ ) مع إرتفاع درجات الحرارة وإنقطاع الكهرباء والماء ، يهاتفني صديقي من الصباح : إتحركت يا زول ؟ جاوبته بالنفي ؛ يقول لي ( يا زول المقعدك شنو ؟ أطلع أمشي أركب أي حاجه ، لوري دفار بص المهم تطلع ) يهاتفني والدي و والدتي بصورة دائمة .
أقول لنفسي أليست هذه الحرب التي توقعتها ؟ أليس هذا ما كتبته قبل إندلاعها بأقل من عشر ساعات ؟ هذه الأسئلة تدور في ذهني ونحن نُفكّر في المغادرة مع أجواء مشحونة جداً الذخيرة تحيط بنا من كل جانب ، لا ماء ولا كهرباء ؛ تناسينا في هذا اليوم الإفطار ، لم نفكّر كما الأمس بماذا نفطر ونتسحّر ، كل مَن حولنا ذهب وترك ماله خلفه ، نُهبت الصيدليات ، بقالة صديقي البشوش ، المطعم ، كل ذلك في لمح البصر ، تغيّرت المعالم تماماً . الدخان يتصاعد والدانات تدوي والأصحاب يبحثون عن الماء ، في الجانب الآخر وجدوا بعضها في الصهريج .
إشتدت المعارك في ثالث أيام الحرب وبعد ليلة دامية أصبحنا على وضع مُختلف تماماً عن اليوم الثاني ، لم يهدأ المستشفى من إستقبال إصابات الدعم السريع وأثناء مشاهدة تلك اللحظات إنخفضت بطارية هاتفي ، أخرجت ( الباور ) حتى لا أفقد التواصل مع الأهل ، بعد لحظاتٍ فقط جاء صديقي لشحن هاتفه أيضاً .
بعد ما رأيناه في ذلك اليوم من إنقطاع الكهرباء وفقدان الماء ونهب البقالات من حولنا قررنا مغادرة الخرطوم لأننا نعيش في منطقة تشهد معارك ضارية وضربات جوية مُنظّمة ، والحصول على المأكل والمشرب أصبح أمراً صعباً للغاية إن لم يكن مُستحيلاً ، توكلنا على الله وإتفقنا ونحن ستة من الأصدقاء تقاسمنا كل شئ في حياتنا وعزمنا على الخروج من العاصمة ، تفرّقنا على وداعٍ حزين وكٌلٌ مِنا قد يفقد حياته في أي لحظة جراء المعارك المتزايدة ، وكأننا لا نلتقي مُجدداً مشاعر الصحبة الطويلة وجلسات الصِحاب والسَمر ، الحُزن والفرح ، ذهبنا وتركنا ما تركناه ( لتتم سرقته فيما بعد ) إفترقنا ونأمل في لقاءات جديدة ؛ ثلاثة من الأصحاب يُغادرون بالسيارات مُخاطرة صعبة في إنتظارهم قَدّموا مشيئة الله وذهبنا ثلاثة سوياً للخروج .
صوت أخير :
خرجنا والطريق خالياً ما عدا قِلة مُغادرة من العاصمة التي طالما إحتضنت عامة الناس من جميع الأقاليم ، وجدنا إرتكازاً للدعم السريع من عربية واحدة بكامل عتادها الحربي و أحد جنودها يجلس تحت الشجرة والسيارة مطلية ( بالطين كما الأمس ) تحركنا بأرجلنا وبعد دقائق جاء صاحب ركشة يبحث عن بنزين يُريد الخروج من المنطقة ، توقّف لنا وذهبنا إلى أن وصلنا ( الصحافه شرق ) بعدها ذهبنا إلى الميناء البري بأرجلنا وشاهدنا أعدادٍ كبيرة من الناس في طريقها إليه والحركة كثيفة جداً ، ما إن وصلنا إلى الميناء وأصوات ( الرِكِبين تعلو ) القضارف ، سنجه ، الدمازين ، مدني ، سنار ، الفاو وغيرها ، تذكرت حديث صديقي الشفيع ( أركبو أي حاجه وإتخارجو ) أحدنا مُتوجّهاً إلى مدني ذهب عبر بصات ( العقيدة ) ما لفت نظري دفار كبير يشحن إلى إحدى الولايات . ما أحمله من مالٍ لا يتعدّى العشرة آلاف ، وجدنا بص يتبع لشركة رواحل متوجهاً إلى القضارف سألنا من سعر التذكرة أخبرونا بعشرون ألف جنيه ، لم يتمالك صديقي نفسه وأصبح يصرخ بشدة عليه ( إنتو ناس إستغلالين وما بتخافو الله ) قلت له : يا صديقي البلاد تعيش أزمة كبيرة في الضمير ، قاطعنا قائلاً : ( والله الجاز مشترنو غالي ) وافق أن يعطينا التذكرة بسبعة عشر ألف جنيه ، كانت المشكلة الكبيرة بأنه لا يقبل بنكك وكانت هذه معضلة أُخرى أصبحنا نتجوّل من شخصٍ لآخر حتى وجدنا أحد وحوّلنا له المبلغ وتوكّلنا الله وصعدنا البص .
كانت عملية الخروج من الميناء تُمثّل خطراً فعلياً على الرُكاب والبص في نفسه ، جلسنا جوار السائق مباشرة ما سمح لنا بمشاهدة الطريق بكل وضوح ، سِرنا عبر مقابر الصحافه والسلمة والأزهري عبر الطُرق الداخلية حتى وصلنا إلى تفتيش سوبا لم نجد أحد ، وعندما وصلنا إلى تفتيش الباقير غار الطيران الحربي على دبابات الدعم السريع الموجودة في هناك رأينا بأعيننا الحريق داخلها والمدرعات في منتصف الطريق والنيران تلتهم الأشجار ، كل ذلك أمامنا فلو تقدمنا دقائق فقط لكُنا في عِداد الموتى لأنَّ الضربات كانت في منتصف الطريق ، كانت لحظات مُرعبة لكل المُسافرين داخل البص ، حمدنا الله على التأخير الذي حدث لنا في الميناء ثم السير بالطُرق الداخلية . كتب الله لنا عمراً جديداً .
و نواصل في الحلقة الأخيرة إن شاء الله .
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.