باج نيوز
موقع إخباري - أخبار اراء تحليلات تحقيقات بكل شفافية
1135*120   Last

ناصر السيد النور يكتب: السودان: الحرب والدولة

945

*تدخل حرب السودان شهرها الثالث من دون أمل في نهاية تضع حداً لمأساويتها ولكلفتها البشرية وتمددها على نطاق واسع دون حدود، ربما أعادت هذه الحرب ككل حرب التساؤل الذي يتم تداوله على أوسع نطاق أو فضاء في مناقشات الدولة السودانية، حول دولة ما بعد الاستعمار، التي بات يشاع عنها وصفاً ينبئ عن فاصل تاريخ، دولة 56، الدولة الوطنية تاريخ استقلال السودان. فالدولة المعنية بالنقاش والحوار والحرب الآن هي الدولة القومية بتعريفاتها النمطية، منذ أن تبناها صلح مؤتمر وستفاليا في القرن السابع عشر، ومن المفارقات أن معاهدة وستفاليا قامت للحد من حروب أوروبا التي قضت على سكانها، وكانت حروبا دموية مدمرة، بينما تظل الدولة نفسها بنسختها القومية في سياق آخر مصدراً لحروب لا تنتهي.
*ما عانته الدولة السودانية الوطنية (دولة 56) من تشوهات بنيوية، تعود في جزء منها إلى طبيعة المجتمعات التي تعاملت معها، أو حسب ما يرجح باحثو السياسة تعود في أصلها إلى تكوين دولة سبقت الوجود الاجتماعي الملزم للدولة القومية. وإذا اتجه هذا المعنى بالتطبيق على المجموعات البشرية التي عرفت الدولة، وتلك التي عاشت لعقود في ما يعرف بمجتمعات اللادولة Stateless فقد شملها تعريف الدولة أيضاً، في مرحلة لاحقة وهو الشكل القائم والمُنفَّذ عمليا على حدِّ سواء. ولعل في الحالة السودانية كمجتمع متعدد عرقياً وثقافياً وجغرافياً مع تفاوت في التجربة الاستعمارية ذاتها، التي صاغت إدارة شؤونه على مدى خمس عقود أورثته بؤرا متفجرة، لم تنتبه لها نخبه. فقد كانت الحروب الداخلية نتيجة وليست سبباً في تخلف وتمزق القطر في سياق ظاهرة حروب الدولة السودانية التي عرفت الحروب الداخلية الأهلية في أطرافها كافة، أو الأقاليم المهمشة مثلما الوصف في دارج السياسة السودانية.
*قد يرى البعض في الحرب الدائرة الآن حربا لا تنفصل عن حروب الهامش تلك الحروب التي شنتها الدولة السودانية على مجموعات إثنية في مناطق تقع في دائرة التهميش (الجنوب، دارفور، النيل الأزرق) وبوصولها إلى عاصمة البلاد تكون قد بلغت ذروتها. وتحمل كل عاهات الهامش بكل ما يعنيه من مظلوميات مادية لا تقتصر على شعارات حركات الهامش من تنمية، وتهميش واحتكار للسلطة والثروة وغيرها من ذرائع بررت على التمرد ضد الدولة المركزية؛ بل أطلقت العنان لكل الاحتقانات الاجتماعية في بعدها العنصري. وإن تكن الحرب الجارية الآن لم تردد مثل هذه الشعارات صراحة، خاصة طرفها الذي يوصف بالتمرد، وهو قوات الدعم السريع الذي في مفارقة لا تخلو من سخرية سياسية، تشدده في المطالبة بعودة الديمقراطية والحكم المدني! ولكن ما هو التفسير لاستطالة الحروب في وجود دولة، أي تكن درجة قربهم أو بعدهم عن مركز قرارها ممن تمثلهم، أو يشكلون جزءاً من مواطنيها، وتحاول كدولة أن تفرض وجودها الدستوري والسيادي؟ ولعل الإجابة في الطرح الأبرز ما صاغه الفيلسوف السياسي الإنكليزي توماس هوبز في مؤلفه الشهير «ليفياثان» في القرن السادس عشر كيف أن تبرير الدولة يكون في سيادة العقل بدلاً عن الطبيعة، ما يستلزم حكم القانون الذي تنفذه الدولة عبر أجهزتها التشريعية والقضائية والتنفيذية في سياق الفصل بين السلطات، المبدأ الأبرز في منح الدولة طبيعتها القانونية، ولكن كشأن دول العالم الثالث كثيراً ما تعاملت الجماعات المهيمنة في مختلف نظمها المدنية والعسكرية مع كيان الدولة كغنيمة ظفر بها من ظفر، من مجموعات أهلتها ظروفها التاريخية لاحتكار امتيازات الدولة، دون الآخرين ولو كانت الحرب إحدى وسائل هذا الاحتكار.
*على الجانب السياسي أرادت حفنة من السياسيين، أن تكون الدولة موطئا يُرسم المتُخيل والواقعي عبر رؤية تقديرية، أو رؤيا تستلهم ما يغيب واقعا وفقا لأمانيها. وما تبقى من شعارات غير متحققة تظل مطالب وقتية بصفتها البراغماتية، عوضا عن سياسات وخطط تنموية مؤجلة غير مقدور التحُّكم بها، في حدود ما تسمح به إمكانيات الحاضر. أحال هذا الغموض بين دور الدولة وضغائن الاحتقان التاريخي، أن تصبح الدولة نفسها تكوِّن دولة متنازعة من مختلف القوى السياسية والاجتماعية تحول بينها وبين التحقق كدولة مواطنة حروب مستعرة تنفذها أجهزة الدولة في مكان وزمان. وإذا كانت الدولة هي من يقود ويخطط للحرب، وفق احتكارها للعنف بالتعريف الفلسفي السياسي، فقد خلقت سياسات الدولة السودانية بتجاهلها وسوء تقديرها جهات أخرى تمتلك هذا الحق من خارج أجهزة الدولة. فقد أدت الحرب الدائرة بين الجيش السوداني (الوطني) والدعم السريع إلى التقويض المادي والمجتمعي لأجهزة الدولة، وأصبح من المستحيل العودة إلى نسخة الدولة التي عرفها السودانيون إذا كانت دولة 56 أو شكلا من أشكال الدولة الطبيعية. ومن المرجح في ظل تداعي دائرة الحرب أن تغيب الدولة طويلاً عن البلاد وتبرز الحرب المفتوحة في صراع سيتخذ كل أشكال العنف القبلي والمناطقي، على أسس ليست غائبة عن المكون السوداني بكل تفاصليه المعقدة. وبدا أن حالات الانقسام بين مكونات السودان ستتخذ من الدولة، متى عادت جهازاً انتقاميا، أو على مقولة لينين في أطروحته «الدولة والثورة» جهازا لقمع طبقة معينة عن طريق طبقة أخرى، باعتبارها أي الدولة بالمفهوم الماركسي قديماً طبقة، خاصة أن السياسة قد تحولت في السودان إلى حرب بالممارسة الفعلية، ولم تعد إحدى وسائل السياسة على القول الشائع للاستراتيجي البروسي الشهير كلاوزفيتز، الحرب هي السياسة بوسائل أخرى.
نقلاً عن القدس العربي

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

error: