جورج كعدي يكتب: الفقر في السودان يستحضر قضيّة الفقر في العالم
أفقر شعب لأغنى بلد. في السودان احتياطيّ ذهب يُقدَّر بـ 1550 طناً، واحتياطيّ فضة من 1500 طن، وخمسة ملايين طنّ من النحاس، ومليون وأربعمائة طن من اليورانيوم (تضع الولايات المتحدة وأوروبا عيونها عليها)، وفي الثروة الزراعية الهائلة: مائتا مليون فدّان من المساحات الصالحة للزراعة (المزروع منها حالياً الثلث) والكافية لإطعام العالم العربيّ كلّه لو زُرعت كاملة، فضلاً عن 115 مليون فدّان من المراعي الطبيعية، وسادس أكبر ثروة حيوانية في العالم (110 ملايين رأس من المواشي)، و42 ألف طن من الأسماك سنويّاً، ونسبة أمطار تبلغ 400 مليار متر مكعب سنويّاً، ما يجعل السودان خزّان أمان مائيّ للمنطقة بأكملها. وأضف إلى ذلك كلّه إنتاجاً ضخماً جداً للصمغ العربيّ الذي يُستخدم في القطاعات الغذائية والدوائية وتحتكر 70% منه شركات عالمية، والسمسم الأبيض (ثلث الإنتاج العالمي) والسمسم الأحمر (ربع الإنتاج العالمي).
أرض بهذا الخصب والسخاء، يعيش فوقها ملايين الفقراء، حتى بات السودان يصنّف بين الدول الأكثر فقراً في العالم (!)، وتتوالى الحروب والانقلابات الدموية فيه لتراكم مأساة فوق مأساة، كأنّ لعنةً أصابت هذا البلد تمنعه من الاستقرار ومن استثمار ثرواته الهائلة التي تسمح لكلّ إنسان فيه بالعيش الرغد لو استُغلّت إمكاناته ووُزّعت ثرواته توزيعاً عادلاً. علماً أنّ في السودان طاقات بشريّة، فكريّة وعلميّة، تميّزه عن دول كثيرة في أفريقيا والعالم العربيّ، بل والعالم كلّه.
الصراع العسكريّ الراهن الذي يدفع ثمنه الشعب السودانيّ المنكوب منذ عقود، أوّلاً وأخيراً، يسلّط الضوء مجدّداً على قضيّة الفقر الذي تعانيه غالبيّة السكان هناك، والتي تستحضر، في الوقت عينه، قضيّة الفقر المزمنة والمهمَلة منذ مئات السنين، في جهات العالم الأربع، حتى شهدنا “عولمة للفقر” مذ شاع مفهوم العولمة وأريق فيه حبرٌ كثيرٌ قبل أن يخبو وهجه وينطفئ ذكره، وإن بقيت منه اليوم بعض تداعياته وآثاره. حتّى إنّ عالم الاقتصاد الكندي، ميشال شوسودوفسكي، وضع كتاباً في هذا الصدد منحه عنوان “عولمة الفقر والنظام العالمي الجديد” (The Globalization of poverty and the new world order)، الذي صدر عام 2002، مشيراً إلى أن “عولمة الفقر” ظهرت حدّتها في العالم الثالث تزامناً مع نشوب أزمة الديون، وانتشرت في التسعينيّات من القرن الفائت مجاعاتٌ في أفريقيا وجنوب آسيا وأجزاء من أميركا اللاتينية، وتفشّت الأمراض المعدية كالسلّ والملاريا والكوليرا. وحتى في الغرب “الغنيّ” والرأسماليّ انحلّت دولة الرعاية الاجتماعية (بما في ذلك نظام الضمان الاجتماعي بأسره)، وتفاقمت البطالة بين الشباب، حتى أُضفي طابع العالم الثالث على المدن الغربية، وانقسمت الساحة الحضرية في الغرب وفق خطوط عرقيّة واجتماعية، وشهدت المدن الأميركية ازدياداً في أحياء الفقر وأعداد المشرّدين والبلا مأوى فباتت شبيهةً في بعض الجوانب بالفقر السائد في العالم الثالث.
والمفارقة أن “عولمة الفقر” حصلت في فترة تقدّم تكنولوجيّ وعلميّ متسارع. وفي حين أسهم هذا التقدم في مضاعفة الطاقة الكامنة في النظام الاقتصادي إنتاجاً للسلع والخدمات الضرورية، إلّا أن اتساع نطاق الإنتاجية لم يُترجم في الواقع انخفاضاً في مستويات الفقر العالميّ، وساد الفقر سائر البلدان، حتى النامية والمتقدّمة منها. وبحسب منظمة العمل الدولية، يعاني من البطالة أكثر من مليار إنسان، أي نحو ثلث قوى العمل العالمية. ويعزو الباحث الكندي مأساة الصومال والأسباب الحقيقيّة للمجاعة فيه إلى تدخّل صندوق النقد الدولي مطلع الثمانينيّات وتدمير الزراعة الغذائية وانهيار اقتصاد الماشية وتدمير الدولة. أمّا الإبادة الاقتصادية في رواندا فيردّه (في ظلّ العولمة المشؤومة) إلى تركة الاستعمار وهشاشة الدولة وتدخّل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي معاً والإبادة الاقتصادية. وفي ما يخصّ بنغلادش حيث الفقر المريع، وُضع هذا البلد المكتظ سكانياً تحت وصاية كونسورتيوم “المعونة”، وشهد تقويضاً للاقتصاد الريفيّ والاكتفاء الذاتيّ الغذائيّ وأُغرق بفائض القمح الأميركي. كذلك الهند وفيتنام والبرازيل والبيرو وبوليفيا وبلدان عديدة تطول قائمتها وما برحت حتى الساعة غارقة في الفقر بنسب متفاوتة.
يجمع البنك الدولي منذ عام 1981 بيانات من جميع أنحاء العالم “النامي” لمعرفة عدد الذين يعيشون في فقر “شديد” أو “مطلق”، والمصنّفين تحت خط الفقر الدوليّ (IPL). ويبلغ خط الفقر الدولي اليوم 1.9 دولار في اليوم قياساً بالقوة الشرائية لعام 2011 (كمية العملة المطلوبة لشراء “سلّة” من السلع). قد يبدو مدهشاً، للوهلة الأولى، أن تتمّ معاينة الفقر العالمي على نحو حصريّ تقريباً من ممثلي رأس المال في العالم، مع مفارقة نَقْش مجموعة البنك الدولي على واجهةٍ مقرّها في واشنطن عبارة “حلمنا هو عالم خالٍ من الفقر” (!)، إذ سعى البنك الدولي منذ عقود إلى تحقيق حلمه بعالم خالٍ من الفقر، إنّما عن طريق إغراق بلدان العالم النامي بالقروض وبيعها لمستثمري “وول ستريت” بفوائد مجزية تصل إلى 15%، ولكي تحصل البلدان المستدينة على تلك القروض، تُرغم على تنفيذ برنامج “التقويم الهيكلي” (على نحو ما يحصل في لبنان اليوم مثلاً) الذي يطلبه صندوق النقد في حال عدم سداد القروض، فتضطرّ هذه الدول المستدينة إلى بيع أصولها العامة وخفض الإنفاق العام وخفض الرواتب، … إلخ. وأفاد البنك الدولي من انخفاض عدد الأفراد الذين يعيشون على أقلّ من 1.90 دولار يومياً، إلا أنه انخفاض في نسبة “الفقر المطلق” أو ما يسمّى “الفقر المدقع” فحسب، ولا يعني ألبتّة انخفاضاً في الفقر عموماً، ففكرة وجود فقر مطلق ثابت في سائر الأماكن والأوقات هراءٌ مطلق. وتبعاً لـ “خط الفقر الدولي” تتم الحسابات الخاطئة على أساس الاستهلاك لا الدخل، لذا يبقى هذا الخطّ منخفضاً جداً إلى حدّ أنّه ليس كافياً في معظم البلدان لإطعام أي أسرة. وفي العالم النامي، يعجز خط الفقر الدولي عن توفير الحدّ الأدنى الملائم للعيش. الرقم 1.90 دولار ليوم المستخدم من البنك الدولي مستمدّ من خطّ الفقر في أفقر 15 دولة، بما فيها غامبيا وسيراليون، ما يعني أنّ الحدّ الأدنى من الاستهلاك لسكان هم في غالبيتهم ريفيّون ويعيشون إلى حدّ كبير من الفلاحة، فيتمّ احتسابه على أساس دراساتٍ غير منتظمة وغير متماسكة، فيغدو أساساً لسائر البلدان التي يعتبرها البنك الدولي بلداناً “نامية”، وبينها الصين (!) وجمهورية الكونغو الديمقراطية والأرجنتين.
من المقدّر أن يصل عدد الفقراء في العالم إلى نحو
وتعطي الطريقة الخاطئة هذه نتائج سخيفة. باكستان مثال على ذلك، فتبعاً للبنك الدولي كانت جهود باكستان للحدّ من الفقر (بمساعدة نحو خمسة مليارات دولار من قروض البنك الدولي) ناجحة، إذ انخفض معدّل الفقر من 15.9% من تعداد السكان إلى 6.1% بين عامي 1996 و2013. واعتماداً على تلك البيانات، تجرّأ موقع “ساعة الفقر العالمي” على إعلان أنّ مستوى الفقر المدقع في هذا البلد بات أقلّ من 3%، في حين أظهرت الدراسة الاستقصائية الوطنية للتغذية عام 2011 أن ثلث الأطفال الباكستانيين يعانون نقصاً في الوزن ويكابد نحو 44% منهم توقّفاً في النموّ، ويشكو نصفهم من فقر الدم. والأسوأ من ذلك كلّه أنّ نسبة جوع الأطفال والأمهات في باكستان لم تتبدّل طوال العقدين الأخيرين وفقاً لدراسة نشرتها مجلة The Lancet عام 2013، ولم يتحسّن الوضع كثيراً منذ ذلك الحين. وبحسب “مؤشّر الجوع العالمي” لعام 2016، يعاني 22% من السكّان نقصاً في التغذية ويموت 8.1% من الأطفال قبل بلوغهم سنّ الخامسة بسبب سوء التغذية.
وفي ما يخصّ الهند التي تُعتبر، غالباً، نموذجاً للحدّ من الفقر، فإنّها تقدّم مثالاً إضافياً. ففي عام 2015 اعترف متحدّث باسم الحكومة الهنديّة بمحنة ثلاثمائة مليون شخص هم، في الوقت نفسه، عاطلون عن العمل ومحرومون من الأرض، ويتحدّرون غالباً من مجموعاتٍ قبليّة أو من فئاتٍ دنيا. ومع ذلك، يشير موقع “ساعة الفقر العالمي” إلى أنّ نحو 145 مليوناً يعيشون في فقر مدقع. والصورة خارج آسيا مربكة على نحو مماثل، ففي عام 2010، أبلغت الحكومة المكسيكية عن معدّل فقر يبلغ 46%، قياساً بالمعدّل الوسطي الذي حدّده البنك الدولي، والذي يجب ألا يتجاوز نسبة 5%.
تفيد الأمم المتحدة، من ناحيتها، بأنّ نحو تسعمائة مليون شخص، في سائر أنحاء العالم، يعانون نقصاً مزمناً في التغذية، والرقم دوماً إلى ارتفاع. بينما يقدّر البنك الدوليّ أن نحو ملياري إنسان على الكوكب البائس يعيشون بمستوى 1.02 دولار في اليوم. ويقوم البنك الدولي دوريّاً بتحديث مؤشّر خط الفقر العالمي لإضافة عنصر التضخّم، لكنّه يستخدم هذا المؤشّر أيضاً للتلاعب بالأرقام وإظهار “التقدّم” الممكن لتحقيق أهداف الأمم المتحدة الإنمائية، بحيث يتبدّل عدد الفقراء بين ليلة وضحاها، رغم أنّ شيئاً لم يتغيّر في العالم الحقيقيّ!
من المقدّر أن يصل عدد الفقراء في العالم إلى نحو أربعة مليارات ونصف مليار، أي أكثر من 60% من تعداد سكان الأرض. ورغم أن عالمنا يبدو أكثر ثراءً من الماضي، إلا أنّ عدد الفقراء لم يكن في تاريخ البشرية أعلى ممّا هو عليه! إنّها حقيقة ينبغي ألّا تفاجئ أحداً، فثروات البلدان الفقيرة والنامية تنتقل إلى “العالم المتقدّم”. مقابل كل دولار من المساعدات التي تحصل عليها البلدان النامية، تفقد هذه البلدان 24 دولاراً من صافي التدفقات الخارجية، ومقابل كلّ مدرسةٍ تُبنى أو بئر تُحفر أو سلّة غذاء تُرسل إلى البلدان النامية، يتلقّى أرباب المال والأعمال والمصارف في الغرب 24 ضعفاً من خلال الديون والفوائد ونهب الموارد والاحتيال.
يقوّض هذا زعم دعاة الأفكار “القائمة على الحقائق” بأنّنا لو تركنا المصرفيين وأصحاب المليارات يقومون بعملهم “الجيّد” لسارت الأمور نحو الأفضل في “أفضل العوالم الممكنة” التعبير المستوحى من مقولة الفيلسوف لايبنتز المتهافتة، فمن المرجّح أن تؤول الأمور إلى الأسوأ، لا إلى الأفضل، والقول بتطوّر الاقتصادات النامية في المَدَيَيْن القصير والمتوسط ليس أمراً مضموناً كما يُصوّر لنا أحياناً. كذلك، قدّم صندوق النقد الدولي وصفته المعتادة (لبنان أبرز مثال اليوم)، إذ حثّ البلدان المنكوبة بالديون على “زيادة كفاءة الإنفاق العام، وخصخصة القطاع العام، وتطبيق سياسة التماسك الماليّ، بما في ذلك السعي خلف موارد جديدة من خلال الضرائب على المستهلكين”. يؤدي ذلك، بالتأكيد، إلى تأثيرٍ كارثيّ على مستوى المعيشة في بلدان تخضع لشروط كهذه.
نعود في هذا السياق إلى مَثَل الهند، فليتمكّن هذا البلد المكتظّ سكانيّاً من احتواء التدفق الهائل لسكان الأرياف إلى المدن (فائقة الاكتظاظ أصلاً)، عليه أن يحقّق نموّاً اقتصاديّاً تتراوح نسبته بين 8% و10% سنوياً، في حين تعاني الدولة من عجز ماليّ لا يمكن تحمّله، مع ارتفاع حجم “القروض المعدومة” إلى 11.6 من مجموع القروض. وفي ظلّ ارتفاع أسعار الموادّ الحيويّة الأساسية، كالنفط، في السوق الدولية، قد يتحوّل النموّ الاقتصاديّ المدعوم بالقروض في الاتجاه المعاكس، فتنفجر البطالة، وتحصل هجرة معاكسة من المدن إلى الأرياف، وسيناريو كهذا يكون بالفعل تكراراً للأزمة التي ضربت شرق آسيا عام 1997، مع فرقٍ وحيد هذه المرّة أنّها ستضرب سادس أكبر اقتصادات العالم، في بلد يتوقّع أن يغدو الأكثر تعداداً سكانياً العام المقبل 2024.
ثمّة في جانب آخر تأثير التبدّل المناخيّ الذي أصاب فعليّاً البلدان النامية من حيث نقص المياه وتضاؤل المحاصيل، ما يُنذر بمستقبلٍ خطير لفقراء العالم، ويُضائل الأمل بإمكان حصول “معجزة” في مستقبل قريب. ولو سُمح بمزيد من النهب الرأسماليّ لثروات الشعوب، ستكون النتيجة كارثة إنسانيّة لم يسبق لها مثيل ولا يمكن تصوّرها، فمصدر ثروات الرأسماليين، على امتداد تاريخ الرأسمالية، هو فقر الشعوب. تنبع ثروة بيل غيتس، مثلاً، في نهاية المطاف، من العمل غير المدفوع الأجر الذي تقدمه الطبقة العاملة، وتكمن في الفرق بين قيمة منتجات عمل العمّال (سواء السلع أو الخدمات) والأجر الذي يتلقونه. وكلّما كان هذا الاختلاف أكبر ازدادت الأرباح، ما يولّد ضغطاً هائلاً لإطالة ساعات العمل و”تقليص تكاليف العمالة”، أي خفض الأجور وازدياد سوء ظروف العمل. إنّه التراكم المزدوج والمترابط للثروة والبؤس.
ولأنّ غزّة البطلة، المقاوِمة والمحاصَرة منذ عقود طويلة، هي اليوم الحدث والحديث، لا بدّ من التعريج في سياقنا على مأساة الفقر فيها، إذ ثمة نحو 40% من أسر غزّة يعيشون تحت خطّ الفقر، وهي تعتمد بنسبة 70% على المساعدات الخارجية، على هذا النحو أو ذاك. ونسبة البطالة فيها هائلة، كذلك سوء التغذية، وعمالة الأطفال المرتفعة، رغم الجهود المحدودة التي تسهم بها منظمة يونيسيف لحماية الأطفال وتعليمهم. غزّة نموذج معبّر جداً عن حالة البؤس الاجتماعيّ، في ظلّ حصار وحشيّ يمنع الإنسان الغزّاوي حتّى من أن يقتات من ثروة شاطئه، فضلاً عن المذابح التي تُرتكب في حقّ السكان الذين يحيون ضمن بيئة من الاكتظاظ السكاني في المساحة الضيّقة، رغم أن بطولات أهلها ومقاوميها هي باتساع الكون.
وسط هذه الظلمة والأوضاع البشرية البائسة التي يعيشها نحو نصف سكان الأرض، هل يمكن رؤية أي بصيص أمل؟ بلى، ممكن، حين تنتفض الشعوب المضْطَهَدة والمُسْتَغلَّة وتُحكم القبضة على ثرواتها وتُحسن استثمارها في التنمية الصناعية والزراعية والتجارية والسياحية، إلخ، فتحقّق الرفاه والازدهار لكلّ أبناء الوطن من خلال التوزيع العادل للثروات، شرط أن تمتلك مزيداً من الوعي عبر الثقافة والعلم اللذين يفضيان إلى الحكم النظيف، غير الفاسد، الوطنيّ، العادل والعامل لخير الوطن والشعب. وثمّة بلدان أطلقت هذه التجربة.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.