د. الشفيع خضر سعيد يكتب: مشاحنات القوى العسكرية في السودان
*الوضع في السودان يتفاقم ويزداد تعقيدا وتأزما مع كل صباح جديد. ولا تلوح في الأفق القريب أي حلول يمكن أن تحقق استقرارا حتى نلتفت إلى الأهم المتعلق باستكمال مهام الفترة الانتقالية والخروج بالبلاد من الجب المظلم، بقدر ما تتزايد وتتعدد ملامح الفوضى والاحتمالات المرعبة ومظاهر إنهيار الدولة. وليت الأمر توقف فقط عند الخلافات بين القوى السياسية، فالبلاد ربما يمكنها التعايش لفترة تطول أو تقصر مع التأزم السياسي الناتج من خلافات وصراعات الأحزاب والقوى السياسية والمدنية.
وكما رددنا كثيرا، نحن لا تزعجنا الخلافات والصراعات السياسية، فهي أمر طبيعي ومتوقع، وفي الغالب تأتي بنتائج صحية إذا ما أحسن إدارتها، ولكن المزعج حد الغضب، النزول بهذه الصراعات حضيض الابتذال والذي من أوضح علاماته تغليب الخلاف والصراع حول كرسي السلطة، على تفاصيل حياة المواطن من لقمة العيش والصحة والأمن والأمان. وليت الأمر توقف أيضا عند التأزم الاقتصادي، فهناك أكثر من وسيلة للتصدي له ومنع استفحاله. ولكن، لابد من التحذير الشديد أن التأزم الاقتصادي عندما يدخل اللحم الحي، بمعنى إصابة البلاد بالشلل الاقتصادي وإقترابه من إجتياح أسباب العيش في أدنى مستوياتها، فإنه لن يمهلنا ذات فترة التعايش، أو أقصر منها، التي من الممكن أن يعطينا لها التأزم السياسي، قبل انفجار الفوضى والانهيار. والتوقعات، مدعومة بما توفر من معلومات، تشير إلى أن البلاد غاب قوسين أو أدنى من الانهيار الاقتصادي الشامل، وعندها لن يُنقذ الوضع أي من المبادرات أو المواثيق المطروحة اليوم، وستنحدر البلاد سريعا إلى مستنقع الفوضى والحرب الأهلية.
أما الباعث حقا للقلق والتوتر الشديدين، فهو استمرار وازدياد حدة المشاحنات والاحتكاكات، الصريح منها والمستتر، بين قيادة القوات المسلحة السودانية وقيادة قوات الدعم السريع، وإن كانت لاتزال حتى اللحظة تنحصر في القول والخطاب، ولكن، وكما يقولون فإن الحرب أولها كلام. وبسبب هذه المشاحنات والاحتكاكات بين الطرفين، وسعي كل طرف للانتصار بحلفائه، فإن الاستقطاب السياسي والاجتماعي، وكذلك التوتر الأمني، في السودان وصل حدا حرجا وخطيرا سيدفع البلاد، وقريبا جدا، لأن تنفجر أو تتفجر إذا لم يتم تدارك الأمر ومعالجته سريعا.
أما إذا استمر حوار الطرشان السائد اليوم في البلاد وأحكم قبضته على العلاقات السياسية بين المكونات المدنية فيما بينها، والعسكرية فيما بينها، والمدنية العسكرية، والتي من المفترض أن تتصدى لقيادة الفترة الانتقالية وحمايتها، وإذا ظلت هذه القوى تختلف في كل شيء، أو تتفق اليوم ثم تتصرف بما يوحي أنها ستنقض غزلها في اليوم التالي، مما يعزز من الشكوك الموجودة أصلا عند المواطن العادي بأن معيار هذه الخلافات هو المصلحة الحزبية والخاصة وليس مصلحة الوطن ولا لصالح تنفيذ شعارات الثورة ومهام الفترة الانتقالية، وفي ظل حقيقة انتشار السلاح خارج القوات النظامية، وأن البلاد، وتحديدا العاصمة، أصبحت ثكنة لعدة جيوش وميليشيات تتجمع وتستعرض قواها دون أي اعتراضات من القيادة العسكرية والشرطية في البلاد، فإن الخطر الداهم لن يطال الفترة الانتقالية وحسب، وإنما الوطن بأكمله، وعاجلا ستدخل البلاد مرحلة اللادولة، وستعشش فيها سيناريوهات الدمار التي ستشعل حريق الوطن. ولن يحتاج أي متابع إلى كثير عناء ليقول إن هناك قوى، داخل السودان وخارجه، تعمل بوعي وتخطيط على تهيئة الأجواء والظروف الملائمة لتحقق تلك السيناريوهات المدمرة.
أما ما هي مصلحة هذه القوى وماذا ستستفيد، فأعتقد أن الإجابة الأولى والبديهية هي فرملة قطار التغيير وإجهاض ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 بدءا بمحاولة تصويرها وكأنها كانت غلطة، أو قام بها مجرد نشطاء يافعين في السياسة ولا يفقهون دروباتها.
وكما كتبنا كثيرا من قبل، فإن السودان اليوم في أمس الحاجة إلى جبهة واسعة من أجل التحول الديمقراطي وإنقاذ الوطن، ولا يعقل أن تظل القوى السياسية والمدنية بهذا التشرذم والتشظي والذي لن ينتج سوى المزيد من التأزم والفشل. وللأسف، تكررت حالة التشرذم والتشظي هذه على مر التجارب الديمقراطية في السودان، ولعبت دورا رئيسيا في إصابة هذه التجارب في مقتل، مثلما ظلت وقودا لدوران الحلقة الشريرة في البلاد، حيث تعاقب الديكتاتوريات والانتفاضات والديمقراطيات الهشة. وقلنا إن استمرار هذه الحالة يؤكد الإتهامات بأن النخب السياسية السودانية لا تستفيد ولا تتعلم من الأخطاء التي ترتكبها، بل وتكررها، وأن حالة من عمى البصيرة تتملكها فلا ترى نظرات الشك وعدم الثقة التي يرمقها بها الشارع ولجان المقاومة، مثلما لا ترى أن في مواجهة هذا التشظي تتحفز القوى المتربصة بالثورة والتي ضربت الثورة مصالحها، لإستغلال أي سانحة للتقدم خطوة لصالح استعادة مطامعها السياسية والاقتصادية، فتجر البلاد خطوات إلى الوراء، وربما إلى مستنقع الحرب الأهلية.
لا بد من وقفة حاسمة، حتى لا يسقط الوطن. إنها فرض عين وليس فرض كفاية! وعلى العقلاء في كل الضفاف الاعتراف بأن الكارثة على مرمى حجر، وأن البلاد وصلت البلاد مرحلة يصبح فيها أي جهد مبذول لصالح فئة أو أي إنتماء آخر غير الوطن، هو جهد صاحبه لن يكسب، ولكن الخاسر الأكبر هو الوطن. لا بد من كسر الحواجز المضروبة بين التحركات والمجموعات المقاومة، حتى تتخلق كتلة جديدة موحدة من أجل التحول الديمقراطي وإنقاذ البلاد، وضد تحول صيحات الاختلاف في الرأي إلى صيحات الحرب ومحاولات إلغاء الآخر، وضد كل أشكال ومحاولات الاستقطاب السياسي العسكري. هذا ما يجب أن تفكر فيه كل قوى الثورة وبصوت عال، من أجل إبتداع الخطط العملية وتنفيذها لبناء هذه الجبهة الواسعة. ونحن نمد أيادينا لكل من يوافقنا الرأي في بنائها، غض النظر عن موقعه ومنطلقاته ورؤيته الخاصة في كيفية الانتصار بالثورة، ومادام مستعدا لفتح ذهنه واسعا للمراجعات، ومادامت بوصلة خطى ضميره تقوده ضد إحتراق الوطن.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.