أبوذر الغفاري بشير يكتب: إفادة شاهد الملك في محاكمة مدبري انقلاب يونيو 1989 الأساس القانوني والتحديات
عقب انتفاضة أبريل 1985 حرصت حكومة الانتفاضة على الكشف عن وقائع جريمة أعدت بترتيب ممعن في السرية والاخفاء، وبذل فيها جهد كبير لتظل طي الكتمان، وهي ترحيل اليهود الفلاشا إلى إسرائيل. فنقل الآلاف منهم من معسكر تواوا للاجئين بالاقليم الشرقي عن طريق البصات إلى مطار الخرطوم ومنه إلى خارج البلاد، دون إجراءات جوازات أو جمارك أو ترتيبات أمنية. ومن ثم وجه الاتهام إلى عمر محمد الطيب نائب رئيس الجمهورية ورئيس جهاز الأمن وأربعة من ضباط الجهاز بترحيل حوالي 25 ألف من اليهود الفلاشا إلى إسرائيل. وفي سبيل الحصول على أدلة على الجريمة وإثباتها عرض النائب العام على أربعة ضباط تابعين لجهاز الامن أن يكونوا (شهود ملك) من بينهم العقيد الفاتح عروة والعقيد موسى إسماعيل، وذلك بمنحهم عفواً مشروطاً بالكشف عن كامل تفاصيل الجريمة. وكان نتيجة هذا العفو أن أزال المتهمون الأربعة القناع عن أدوارهم في الجريمة وأدوار رؤسائهم، مما أدى إلى إدانة السيد عمر محمد الطيب بمخالفة قانون مقاطعة إسرائيل وقانون العقوبات وقانون الجوازات والهجرة والجنسية، والحكم عليه بالسجن مدى الحياة.
كانت هذه القضية أشهر السوابق السودانية التي استمعت فيها المحاكم السودانية إلى (شهود ملك) منحوا عفواً مشروطاً وأسفر ذلك العفو عن إدانة المتهم الأساسي ونجاح شهود الملك في الإفلات من العقوبة. ويبرر منح العفو المشروط لبعض المتهمين الإخفاء المرتب للجريمة والخشية من عدم إدانة الفاعل الأساسي في الجريمة. ويبدو أن هذا الدافع هو نفسه الذي حفز النيابة العامة إلى الدفع بالسيد هاشم أحمد عمر بريقع ليكون شاهد ملك في قضية مدبري انقلاب يونيو1989. ففي ظل انكار المتهمين لأي دور لعبوه في مرحلة تخطيط وتنفيذ الانقلاب، فقد كان لابد من شهادة توضح تفاصيل الوقائع التي جرت ومن قام بها من بين الفاعلين الأصليين في الانقلاب.
باستقراء تجارب النظم القانونية في منح العفو المشروط بالكشف عن كامل وقائع الجرم وفاعليه، فقد استخدمت عادة في الظروف التي يصعب فيها الوصول للمجرمين الأساسيين، فمثلاً استخدم هذا الأسلوب في أوربا في تقديم بينات على زعماء عصابات المافيا من قبل شركائهم أو لتقديم زعماء المجموعات الإرهابية للعدالة.
لم ترد عبارة (شاهد ملك) ضمن النصوص التشريعية في القانون السوداني، وإنما استلفت من الأحكام القضائية ومراجع الفقه الغربي، ولم تجد المحاكم السودانية حرجاً في استخدامها للدلالة على منح المتهم عفواً مشروطاً، بما في ذلك استخدامها في أدبيات المحكمة العليا. ورغم أساسها القانوني الواضح في المادة (59) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991، إلا أنها واجهت نقداً على أساس أخلاقي. فقد ذهبت المحكمة العليا في قضية حكومة السودان (ضد) عمر محمد الطيب إلى أن (من يقبل العفو جمع مع كونه شريكاً اعتباراً آخر وهو أن له مصلحة في بينة ما يدلي به فبينما دافع الشريك العادي هو توريط رفيقه بطريقة علي وعلى أعدائي يا رب، فإن من يقبل العفو يلتمس فرص خلاصه الشخصي في مدى نجاحه في توريط شخص آخر مما قد يدفعه إلى المغالاة في والاشتطاط بما يبلغ درجة الاختلاق استرضاء لمن منحه العفو وإمعاناً في إظهار سلامة نيته وتفاوته في إظهار الذ أوجب العفو) وقد أدت هذه الأفكار إلى أن تنظر بعض دوائر المحكمة العليا بعين الريبة لشهادة شاهد الملك
تواجه الشهادة التي قدمها السيد هاشم أحمد عمر بريقع عدة تحديات قانونية تتعلق بقبولها وتقدير وزنها وتتمثل هذه التحديات في الآتي:
أولاً: ثار الجدل حول طبيعة شهادة الملك ومدى حاجتها للتعضيد ببينة أخرى. وباستقراء القضايا التي سبق أن فصلت فيها المحكمة العليا في ذات الموضوع فإنها لم تستقر على بر تجاه طبيعة شهادة من منح العفو المشروط. فقد ذهبت المحكمة العليا في القضية الجنائية م ع/ ط ج/ 2006/ 642 إلى أن إفادات شاهد الملك وإن كانت صادرة عن شريك حقيقة إلا أنها تعتبر شهادة شاهد عادي حكماً، طالما أنها تؤخذ على اليمين وتخضع للاستجواب وإعادة الاستجواب. وأكد هذا الاتجاه حكم المحكمة العليا في قضية ع ع/ ط ج/ 105/ 1994 والتي قضت أن المتهم إذا أعطي عفواً مشروطاً بالإدلاء بالحقيقة فإنه يكون شاهداً لا شريكاً لأنه أعفي من المسؤولية ولأنه أدلى بأقواله على اليمين ولأنه انفصل عن المحاكمة وبالتالي لا تحتاج بينته لتعضيد مثل بينة الشريك وإنما تقيم كما وردت.
إلا أن هذا الاتجاه لم يجد قبولاً في قضية حكومة السودان (ضد) عمر محمد الطيب والتي قضت بأن إفادة شاهد الملك تتطلب تعضيداً ولا يمكن قبولها كبينة منفردة للشك الذي يعتورها. ويبقى على عاتق محكمة انقلاب الثلاثين من يونيو 1989 أن تختار أياً من الاتجاهين. وبالطبع فإن الاتجاه الذي ستختاره سيكون له أثر على توفر البينات في ظل الانكار الكبير من عدد من المتهمين بالمشاركة في مرحلة تخطيطه وتنفيذه.
ثانياً: اشترط قانون الإجراءات المدنية لسنة 1991 أن لا يكون لشاهد الذي أعطي عفواً مشروطاً دور أكبر في ارتكاب الجريمة محل الاتهام. وبالطبع فإن تحديد مدى الدور الذي لعبه شاهد الملك أمر تقدره المحكمة وفق ما يتضح لديها من وقائع. وللمحكمة أن تضع في اعتبارها تقدير الشاهد نفسه لذلك الدور، ويبدو أن هذا ما ذهبت له المحكمة بسؤال الشاهد عن مدى تقديره الشخصي لذلك الدور. وقد كان السيد بريقع محايداً حين أبدى للمحكمة أن من غير الممكن له تقدير ذلك الدور ويترك أثره للآخرين.
وفقاً لنص المادة (59) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1991 فإن العفو الذي يحصل عليه شاهد الملك لا يتعلق بعدم إدانته، وإنما يتعين السير في محاكمته مع غيره من بقية المتهمين، وفي حال استقر حكم المحكمة على أنه استوفى اشتراطات الحصول على العفو فإنها تصدر حكمها بوقف العقوبة في حقه. أما إذا تبين لها أنه أخفى معلومات أو لم يوفي بشروط العفو الممنوح له فلها أن تقرر إيقاع العقوبة عليه.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.