باج نيوز
موقع إخباري - أخبار اراء تحليلات تحقيقات بكل شفافية
1135*120   Last

أمير تاج السر يكتب: ذكريات وأحلام

859

*منذ أيام التقيت مصادفة في المستشفى بواحد من سكان مدينة طوكر في أقصى شرق السودان، تلك المدينة التي سميتها البلدة البعيدة، حيث عملت هناك فترة أشبه بالنفي، والتقطت كثيرا من الشخصيات والحكايات والأساطير، التي وظفتها في ما بعد في كتابتي، خاصة في «سيرة الوجع»، وهي حكايات متنوعة عن شخصيات، عاشت في البلدة البعيدة.

*كان بي شغف لمعرفة أخبار البلدة، ومصائر الشخصيات التي عرفتها هناك وانتقلت إلى النصوص في ما بعد، وكان صادما أن كل من سألت عنه من أولئك المميزين، إما مات قديما أو حديثا، والبلدة نفسها تغيرت كثيرا، لم تعد تلك البعيدة بعد أن غزاها ما غزا العالم من فرح وإحباط على حد سواء، وبعد أن نشأ فيها جيل، اختطف كل ما يمت إلى الجيل الجديد من معان، وإحباطات وتكنولوجيا في الاتصال، وصفحات كثيرة في مواقع التواصل الاجتماعي، فقط بقيت البنية التحتية المهشمة، أسوة بالبنية التحتية للوطن كله، ولطالما تحدثت عن بنية الوطن الغائبة في مقالات كثيرة.

*لقد عدت إلى قراءة «سيرة الوجع»، قرأتها بتمعن ولم يخطر ببالي حتى بعد أن عرفت مصائر شخوصها على الواقع، أنهم بالفعل رحلوا، كانوا موجودين بكل أصواتهم وابتساماتهم، ومآسيهم أيضا، والذين ماتوا وعاصرت موتهم بالفعل، أثناء وجودي هناك، وكتبت عن ذلك الموت، ما تزال أيضا آخر ملامح لهم موجودة في ذاكرتي وذاكرة النصوص التي كتبت عنهم.

*أتذكر إدريس الصغير، الدكتور كما كان يسمي نفسه، ويحاول في حياته وسلوكه العام في البلدة أن يبدو طبيبا بحسب مفهومه للسلوك الطبي، حيث لا بد من وجه جامد لا يأبه بالضحك، ومشية رزينة لا تتعثر، وصوت قوي وصارم، يبث في الحديث.

*لقد كان إدريس طالبا في المرحلة الإعدادية، وجاء له أحد أقاربه من السعودية بكتب عن الطب، فيها إشارات لبعض الأمراض، وكيفية الوقاية منها، كان يستخدمها في محاولته أن يكون طبيبا بالمعنى الذي يظنه عن الطب.

*كان إدريس بطبيعة الحال يزورني في المستشفى الصغير الذي أعمل فيه وحدي، ومنذ أول يوم أخبرني بأنه أحق من الغرباء بالعمل في المستشفى، وسيكبر ويدرس في العاصمة ويعود ليعمل هنا، كان يتحدث بثقة، وتبدو ابتسامات والده الذي يرافقه دائما، سخية وداعمة لمشروعه المستقبلي. وشخصيا اعتبرته من الحالمين الذين لا يكتفون بالأحلام وحدها ولكن قطعا يسعون إلى تحقيقها، بشتى السبل ولطالما عاصرت في حياتي عشرات الحالمين الذين يكتبون أحلامهم في الأذهان فقط، ولا يسعون لتفعيل أي حلم على الواقع، إما لأنهم لا يستطيعون وإما لأن الأحلام بعيدة تماما عن إمكانية التحقق.
مثلا أولئك الحكاؤون الذين أتحدث عنهم دائما، والذين يتسيدون المجالس ليحكوا أسفارا ومغامرات لن تحدث قط، يلمون جزيئياتها من سماعهم للإذاعة، في الليالي الجافة، وتركيزهم على الأخبار البعيدة، والمسلسلات التي يقوم ببطولتها نجوم معروفون، وغالبا توجد نساء جميلات، وملكات وأميرات، وقفوا على أبوابهن واستقبلوا بالزغاريد. في حكيهم.

*وبالرغم من أن جلساء الحكي، يعرفون تماما منزلة الحكاء في قريته، وإنه مجرد رجل أمي لا حول له ولا قوة، وغالبا يكون موجودا في القرية منذ ولد، ولم يغادرها قط، إلا أن لذة الحكايات تشدهم، وتبقيهم ملتصقين بالجلسة، ومؤمنين على كل ما يقال فيها.

*قلت إن إدريس الصغير كان يحلم، ويلتزم الصرامة في حلمه، وأراد مني تعليمه كيف يحقن المرضى، ومرات عدة اختطف سماعتي الطبية ووضعها على قلبه أو قلب والده، وهز رأسه بثقة، أنه تعرف على مرض ما.

*الذي حدث أن الدكتور لم يصبح طبيبا، لأن للقدر كتابة أخرى، كانت موجودة سلفا، وحان وقت ظهورها.
كنا في الليل حين جاءني الممرض المناوب في السكن الملاصق للمستشفى، يخبرني بوجود مريض في حالة سيئة، لديه استفراغ حاد وآلام في البطن، ولا يستطع الوقوف، أسرعت إليه من دون أن أفكر في شيء، وكانت مفاجأة لي أنه الولد طبيب المستقبل. قال والده أنه تناول أكلا عاديا مع العائلة، ولم يحدث لأحد غيره شيء، سألته عن آلامه، فلم يستطع الرد، وبدا لي تائها بعيدا في عالم آخر. ولأنه ولد صغير، كان لا بد من فحص سكر دمه، وتلك الأيام لم يكن ثمة أجهزة سريعة تقيس السكر وقتيا، لذلك كان لا بد من حضور فني المختبر الذي جاء من أحد أطراف البلدة، وكان ما توقعته، سكر في أقصى حالات ارتفاعه.

*عملنا حتى الفجر في محاولة إنقاذ الدكتور، وجهزنا سيارة لنقله إلى مدينة بورتسودان حيث العلاج أكثر فعالية، لكنه رحل.

*تلك السيرة التي أعدت قراءتها، أحزنتني كثيرا، ليس لأن أحد المرضى الذين عرفتهم في حياتي رحل، فالمرضى وغير المرضى يرحلون باستمرار، والحياة ماضية إن رحل أو بقي أحد، ولكن لأن رحيل إدريس وهو في الخامسة عشر من عمره كان رحيل حلم مستقبلي كبير، ونادرا ما تعثر على حلم بهذه الضخامة يولد في بلدة بدائية قاحلة من أشياء كثيرة، أهمها الرغبة في الحفاظ على حياة الناس.
يقيني أن الكتابة عن زمن ما، في حياة الكاتب، تعيد كثيرين رحلوا إلى الحياة، سيتعرف إليهم من يقرأون سيرهم بوصفهم أحياء موجودين، وهكذا تمنح الكتابة خلودا.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

error: