جمال محمد إبراهيم يكتب: جنرالات في أفريقيا يبيعون شعوبهم
(1)
من مشاهد الألفية الثالثة ما هو ملاحظ من غلبة المصالح على العقائد السياسية، وأبرز دلالاته بانت في التمهيد لانهيار دولة الاتحاد السوفييتي السابق في تسعينيات القرن العشرين، وتفتّتها إلى دول مستقلة، تراجعت شعوبها إلى انتماءاتها القومية الضيقة، اقتصاداً واجتماعاً وثقافة. لم تعد للأيديولوجيات من سطوة، بل عاد الركون إلى المصالح الاقتصادية مدخلاً حاسماً في علاقات الدول وتعاونها في ما بينها. ليس ذلك زعماً قاطعاً، لكنّ صورة المجتمع الدولي بعد أفول منافسات حقبة الحرب الباردة، صارت الأقرب إلى التمترس المصلحي، لا التكتّل العقائدي، معياراً لعلاقات التعاون بين كيانات المجتمع الدولي.
(2)
غير أنّ هذه التحوّلات في العلاقات بين تلك الكيانات باتتْ محكومة بمعايير بديلة، تتصل بالالتزام بحكم راشد وباحترام لإرادة الشعوب، وبإيمانٍ بمجمل حقوقها الإنسانية. إلى ذلك ظلت المواثيق الدولية على فاعليتها، أعمدة راسخة يقوم عليها الحرص على الأمن والسلم الدوليين، وإن أصاب تلك الأعمدة وهنٌ واستضعاف. جرّاء ذلك التنافس المغموس بالشرِّ بشأن تحدّيات استجدّت في الساحة الدولية، مثل تناقص الموارد أمام الانفجار السكاني، وتحوّلات الطبيعة التي لحقت بالبيئة والمناخ والاستحرار، ضاعتْ مصالح الشعوب في البلدان الغنية بثرواتها، والفقيرة في قياداتها.
هكذا، باختصار، عاد العالم إلى قديمه، فيما تصاعدت وتيرة الصراعات التي تحتدم بين أقوياء العالم وضعفائه. وفي مثل هذه الصراعات، تتراجع الالتزامات القيمية والأخلاقية، فتكاد أن تطغى قوانين الغاب و”داروينية” البقاء للأقوى.
(3)
لقد أنهكتْ تلك الصراعات أعمدة الأمن والسلم الدوليين، ليس المنظمات الإقليمية، مثل جامعة الدول العربية في الشرق الأوسط، أو الاتحاد الأفريقي في القارّة السمراء، أو مجموعة “الآسيان” هنالك في آسيا. تلك نماذج لكياناتٍ ارتضتها بلدان أقاليم العالم وقارّاته وتوافقتْ عليها، ولكن بعضها أصاب نجاحاً، فيما لحق بأكثرها تهميشٌ منكور، مثل الذي شاهدناه عالقاً بهيئة الأمم المتحدة، بكامل أذرعها وأطرافها. ما نرى من حربٍ مستعرة بين روسيا وأوكرانيا هو وجه من صراعٍ قد يكون مدمّراً بين شرقٍ وغرب، فيما تعجز الأمم المتحدة، وقد غلبها الأمر، والعالم مهددٌ بانتحارٍ ماثل.
من ينظر إلى أحوال القارّة الأفريقية، يرى جنرالاتها وقد انقلبوا على حكومات بلدانهم، بلداً بعد آخر، بخاصة في وسط أفريقيا وغربها، يديرون أحوال بلدانهم بغير كفاءة، وبإهمال متعمّد للمواثيق الإقليمية والدولية.
(4)
تنافسُ الأقوياء يدفع أثمانه الفقراء، فكما يجري المثل، فإنّ الأفيال لا تهمّها الحشائش التي تدوس عليها، والمصيبة الكبرى أنّ الفقراء يمتلكون من الثروات والموارد ما يسيل له لعاب الأقوياء الطامعين. تتراجع في لعبة المصالح والسيطرة تلك المبادئ والالتزامات الأخلاقية، يبصرها الأقوياء، وتعمى عنها عيون الفقراء.
في مثل تلك الصراعات و”المونديالات” السياسية، لا مكان لالتزامات أو لأخلاق أو لقيم. دولة قوية، مثل روسيا، تنشئ جيشاً من المرتزقة، تبعث بهم إلى ما وراء حدودها لتحقّق مكاسب عسكرية واقتصادية، ولا يسأل أحد عن حقوق الشعوب في الإرادة الحرّة، وفي الكرامة، وفي مراعاة المبادئ الإنسانية. تعبث مرتزقة مجموعات فاغنر في السودان وفي أفريقيا الوسطى وفي تشاد وفي بلدان أفريقية أخرى عديدة، وليس بيد الآخرين إلا تصنيف مثل تلك المجموعات بأنّها “إرهابية”، وينتهي الأمر، فيما الصراع الشرير على أشدّه.
مؤسفٌ أنّ جنرالات أفريقيا ينجحون في تجاوز مصالح شعوبهم ومخادعتها ليخدموا مصالح الأقوياء من البلدان الأخرى، فيقبضون الثمن في غضّ الطرف عن تلك التجاوزات. ذلك نوعٌ من الارتزاق السياسي، يبقي مثل هؤلاء الجنرالات في كراسي الحكم في بلدانهم، رغم أنف شعوبهم، فلا يسأل أحدٌ عن مبادئ الحكم الرشيد والشفافية السياسية، وتلك الالتزامات والتعهدات التي تفضلوا بها على منظماتٍ إقليمية لا يحفظون لها إلا قليل احترام. ما أن يُقدم جنرال أفريقي على انقلابٍ عسكري، إلا وتسارع المنظمة الأفريقية إلى تجميد عضوية بلاده فيها. لكن مَن مِن الجنرالات يعبأ بقراراتٍ مثل هذه؟ لاستدامة مصالحهم، يعمد الأقوياء إلى استدامة قيادات هشّة تتحكّم في شعوب مغلوبة على أمرها في أنحاء القارّة.
(5)
ليس ذلك حال المنظمة الأفريقية وحدها، بل لك أن تنظر إلى حال جامعة الدول العربية لربما هو الأسوأ حالاً. لا ترى أكثر الشعوب العربية نفعاً في منظمة تتحكّم في مسيرتها قياداتٌ وزعاماتٌ أكثرها في شمولية راسخة سنوات، أو انقلابية عسكرية عقوداً، أو البقية سادرة في إهمال وتهميش. لكنك تشاهد أمامك مؤتمرات تعقد وأصوات تعلو في منابر الأمم المتحدة، وزيارات مكوكية تتوالى من قيادات بلدان مستضعفة لعواصم الأقوياء، والشعوب لا عاصم لها.
في الوقت نفسه، تعمد إسرائيل إلى محو الأرض الفلسطينية، حارة بعد حارة، وحرق مزرعة بعد مزرعة، وبعدما كادت تمحو الشعب الفلسطيني من ذاكرة المجتمع الدولي، فإنّ مسيرة التطبيع العربي الأفريقي مع إسرائيل تجري على قدمٍ وساق، بل على سفاراتٍ وبيارق. وها هي زيارة وزير خارجية إسرائيل، إيلي كوهين، إلى الخرطوم، قبل أيام، يرمي، في ظنه، إلى مزبلة التاريخ، لاءات الخرطوم الثلاث، فهل سيصدّق التاريخ كذب القتلة الظالمين، وتلك اللاءات أغلى ما منح الشعب السوداني للشعب الفلسطيني؟
نقلاً عن العربي الجديد
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.