د. الشفيع خضر سعيد يكتب: أسر شهداء ثورة السودان يسمون فوق جراحاتهم
*في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بدأتُ سلسلة مقالات تناقش مبادرة منظمة أسر شهداء ثورة ديسمبر/كانون الأول، والتي أطلقتها في 18 يناير/كانون الثاني 2022 تحت شعار «مشروع حق السودانيين في الحياة الأفضل والتأسيس لدولة العدالة والقانون» وموجهة الدعوة إلى جميع السياسيين والأطراف المعنية في القوى النظامية للانخراط في حوار يضمن تحقيق الانتقال الديمقراطي وتجاوز مهدداته الحالية، والانتصار لشعار الحرية والعدالة والسلام. وكان دافعنا إلى مناقشة المبادرة بمثابة احتجاج على ما واجهته من تجاهل، لم يقلل من شأنها هي بل قلل من شأن من تجاهلها، وذلك رغم ما حوته من المعاني والقيم النبيلة عندما أعلنت أن أسر الشهداء قرروا السمو فوق الجراحات وآلام الفقد والحرمان، واعتبروا أن تحقيق ما استشهد من أجله فلذات أكبادهم بتوافق القوى السياسية والعسكرية في البلاد على السير في تنفيذ الانتقال الديمقراطي والشروع في تأسيس سودان الحرية والعدالة وسيادة حكم القانون والسلام، هو ثمن لدماء بناتهم وأبنائهم التي سفكت، وقبل ذلك كله، الدماء التي سفكت من جميع السودانيين منذ الاستقلال، الذين واجهوا عنف الدولة وشاغليها منذ ذلك الحين. ويومها كتبنا «أن هذه القمة في السمو لهي تضحية أخرى من أمهات وآباء الشهداء مماثلة لتضحية فلذات أكبادهم الذين قدموا أرواحهم فداءً لمستقبل الوطن وشعبه، وسيكون من الخزي والعار تجاهل هذه التضحية وقصر العملية السياسية في تفاصيل مسألة السلطة وكراسيها». لكن وللأسف، انقطعت سلسلة مقالاتنا حول المبادرة نتيجة لتدخلات التطورات السياسية المتلاحقة، والتي كان لابد أن نفسح مجالا لتناولها، إلى أن تيسر لنا في مقال اليوم استكمال الجزء الأخير من نقاشنا حول المبادرة.
تقول المبادرة إن السودان ظل لأكثر من ستين عاما مسجونا في حلقة مفرغة من السياسة انتهكت حق شعبه في الحياة الأفضل بأسماء مختلفة: تحرير لا تعمير، وذرائع رفض الحكم الذاتي، والانقاذ الوطني، ومشاريع إيديولوجية مغلقة لليسار واليمين لم تنطلق من تربتنا الوطنية، ولا تؤمن بالديمقراطية على إطلاقها، إلخ، ويرجع ذلك أساسا، وكما كتبنا في مقالنا السابق، إلى حقيقة أننا لم نتفق منذ الإستقلال على المبادئ التأسيسية لدولة تسع الجميع. ونعتقد أن الوقت قد حان لوضع هذه المبادئ التأسيسية وجعلها هاديا وجوهرا لبدء العملية السياسية، وذلك وفق أولويات رئيسة ناقشتهما المبادرة، منها إصلاح القضاء والنظام العدلي، وإصلاح القطاع الأمني والعسكري، كركيزتين أساسيتين لمخاطبة المستقبل، ولتجاوز تهديد الخلل السياسي لعملية الانتقال، عندما يكون عنوانه الرئيسي هو مسألة الاستحواز على السلطة. وفي هذا السياق، نؤمن على ما طرحته المبادرة من أولويات للمسار السياسي الذي يجب أن يتوج به الفعل الثوري الحالي، وعبر آليات العمل السياسي، ومن خلال حوار وتفاوض مباشر بين المكونات الوطنية، وذلك من أجل التوافق على المبادئ التأسيسية للوطن. ومن أهم ملامح الأولويات التي طرحتها المبادرة:
اولا: الالتزام بتأسيس العدالة عبر تبني مشروع سوداني وطني للعدالة الانتقالية، معني بمخاطبة إرث الانتهاكات المؤسسية، والعنف الممنهج للدولة السودانية منذ الاستقلال، ومن منظور الضحايا وذويهم من خلال عرضهم لتحقيق الإنصاف والمصالحة تعزيزا لدور حركة المجتمع وسلطته في ضمان إنهاء حقب القهر والانتهاكات، وانهاء ثقافة الإفلات من العقاب، وفرض سيادة حكم القانون، وذلك بقيادة لجنة وطنية مستقلة ممثل فيها جميع ضحايا الانتهاكات إضافة الي الكفاءات ذات الصلة بعملية الإصلاح العدلي والقانوني والأمني.
ثانيا: الإلتزام بإصلاح نظام الحكم وبما يحقق العدالة السياسية في مشاركة السودانيات والسودانيين في إدارة شؤونهم، وتوسيع مشاركتهم السياسية بإعطائهم سلطات حقيقية في استدامة التنمية وممارسة الحكم عبر ديمقراطية حقيقية ونظام فيدرالي، كمدخل أصيل لتحقيق السلام المستدام، وكتسوية مجتمعية بعيدا عن نموذج هيمنة السلطة المركزية التاريخي الذي أورث شعبنا كثيرا من الغبائن، وظل يهدد وحدتنا الوطنية، ويكون ذلك عبر آلية الحوار الدستوري للخروج بدستور دائم متوافق عليه وهو المدخل الأمثل لمناقشة هذا الأمر.
ثالثا: إصلاح جهاز الدولة البيروقراطي، المدني والنظامي، بعيدا عن التمكين السياسي والحزبي، وبما يضمن مهنيته وحيدته تجاه المواطنين، ومن خلال تعزيز فرص السودانيين في خدمة بلادهم وبشكل عادل ومتساوي، وخلق هذه الفرص عبر التأهيل والتخطيط التنموي، وذلك حتى يطلع الجهاز بدوره في حماية حق السودانيين في الحياة الأفضل، وبما يفتح الأفق السياسي لترتيبات المستقبل للخروج من مهددات الواقع، وابتدار الآليات والاستراتيجيات اللازمة لتحقيق ذلك.
رابعا: إنهاء حقب الفساد وسوء إدارة الموارد الاقتصادية والمال العام، وذلك عبر ضبط حركة المال العام وحصرها في القنوات الرسمية، مع إعمال الشفافية والمساءلة، وتحقق عدالة توزيع الموارد والثروة بين كل المكونات القومية والجهوية في البلاد.
*لم تكتف مبادرة منظمة أسر شهداء ثورة ديسمبر/كانون الأول، بأطروحاتها السياسية وحدها، وإنما اقترحت مجموعة من الخطوات الإجرائية العملية، منها: تأكيدا لانفتاحها على كل الإسهامات الوطنية، تسعى المبادرة لاستقطاب كل قوى الثورة للتفاكر والوصول لتفاهمات واتفاقات تستوعب تطلعات الشارع السوداني حول صياغة الأهداف والرؤى التفصيلية لإدارة الانتقال تأسيساً على الأولويات المطروحة أعلاه، خلق لقاءات مباشرة مع الجهات ذات الصلة للتشاور حول مشروع المبادرة للإضافة والتطوير وصولا لتوحيد الإرادة الوطنية والتوافق على المستويات الأخرى اللازمة والمعايير المطلوبة لإدارة الانتقال، إنشاء آلية متابعة لتوسيع المشاركة لتحقيق وتطوير أهداف هذه المبادرة وتوظيف الجهود مع المبادرات المماثلة، التوافق على مرجعية مؤسسية من جميع قوى المبادرة للتعبير عن التحالفات والقوي التي ستمثل رافعة لتحقيق أهداف وواجبات الانتقال، وذلك لإدارة العملية السياسية من حوار وتفاوض مع أصحاب المصلحة الوطنيين وقيادة القوى النظامية، وفقا لأولويات التأسيس المطروحة في هذه المبادرة والمبادئ المترتبة عليها، وتعزيز الشراكات الدولية في دعم الانتقال المدني الديمقراطي في السودان بما يتوافق ومعايير السيادة الوطنية وتعزيزا لدوره كشريك أصيل في المجتمع الدولي.
نقلاً عن القدس العربي
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.