شهد السودان منذ أن نال استقلاله ثلاثة انقلابات عسكرية نجحت في الوصول إلى السلطة ووضعت يدها على مقاليد البلاد وغيرت مسارها الديمقراطي، وانتهت جميعها بثورات شعبية أدت إلى زوالها والدخول إلى مراحل انتقالية لتجاوز آثارها، ووضع البلاد على المسار الديمقراطي مرة أخرى. وتمت جميعها بالتعاون مع المدنيين الفاعلين في الساحة السياسية. والرابط بين جميع هذه الانقلابات العسكرية أن قطاعاً مقدراً من الذين كانوا على رأس هذه الانقلابات لم يكونوا على قدر القامة المطلوبة لتوضيح حقائق التاريخ، والالتزام بالشفافية تجاه الشعب وتمليكه الاحداث التي لازمت الانقلاب وأدوارهم فيها كما وقعت على الأرض. ليكون له الحكم على تقييم ما حدث.
على سبيل المثال فبعد سقوط نظام الفريق عبود تم تشكيل لجنة قضائية برئاسة القاضي صلاح الدين شبيكة، تولت التحقيق مع قادة انقلاب نوفمبر 1958، ومن الذين استمعت لافادتهم السيد عبد الله خليل رئيس وزراء الحكومة الذي انقلب عليها الفريق عبود ورفاقه. وقد اشارت كل الأدلة بما فيها أقوال قادة الانقلاب أمام لجنة التحقيق إلى انخراط السيد عبد الله خليل بصورة مباشرة في الانقلاب وتسليم السلطة للعسكريين. وقد أكد هذه الواقعة الفريق إبراهيم عبود عند استجوابه أمام لجنة التحقيق فذكر (جاني عبد الله خليل وقال الحالة سيئة جداً، ومتطورة ويمكن تترتب عليها أخطار جسيمة ولا منقذ لهذا غير أن الجيش يستولى على زمام الأمر. فقلت هذا لضباط الرئاسة أحمد عبد الوهاب وحسن بشير وآخرين . مرة ثانية جاءني عبد الله خليل فأخبرته بأن الضباط يدرسون الموقف ، فقال لي ضروري إنقاذ البلاد من هذا الوضع. ثم ارسل لي زين العابدين صالح ليكرر لي نفس الكلام والضباط كانوا يدرسون تنفيذ الخطة. قبل التنفيذ بنحو ثلاث أيام جاني عبد الله خليل في الرئاسة ليطمئن على الموقف فقلت له كل حاجة تقريباً حتتم قبل انعقاد البرلمان. فقال لي (ربنا يوفقكم).
هذه الإفادة المفصلة من الفريق عبود والتي أكدها بعض قادة الانقلاب من العسكريين، أنكرها السيد عبد الله خليل تماماً ولم يجد الشجاعة التي تدعوه لتحمل المسؤولية أمام التاريخ وكشف دوره في الدفع بالانقلاب لغاياته، فذكر أمام لجنة التحقيق (لما سمعت الاشاعة بتاعة الانقلاب ما كان في مفر أني أسكت ساكت لآني إذا استعنت بالأنصار ضد الجيش كان في ذلك انتحار للأنصار أو خلافهم ممن أدفع بهم في وجه الجيش. كان هذا الكلام يدور في قلبي ….. استمريت في موقفي السلبي هذا من الشاعة إلى أن حدث الانقلاب). ويذكر في موقع آخر من محضر التحقيق (حتى يومنا هذا لا أعرف لماذا قام الجيش بالانقلاب لأنهم كانوا مبسوطين وأنا جبت ليهم أسلحة).
أما جعفر نميري فلم يجد خياراً سوى الهرب من المسؤولية والعقاب مستعصماً بالدولة المصرية لاجئاً وتاركاً بقية زملائه الذي شاركوه في تنفيذ انقلاب 25 مايو 1969 لمصيرهم أمام المحكمة التي شكلت لمحاكمتهم. ولم يقف الموقف الذي كان يدعو له أيام جبروته باحترام المؤسسات العدلية والقضاء، فقال في تأييد الحكم على الأستاذ محمود محمد طه وتلامذته الذين رفضوا التعاون مع المحكمة المشكلة لمحاكمتهم ناعياً عليهم هذا الموقف (رغم أن المتهمين ساروا على نهجهم غير الحضاري في التعامل مع المؤسسات الدستورية بالاحتقار التام وهو سلوك درجوا عليه منذ عرفوا فما وقروا هؤلاء الناس قضاة ولا احترموا تشريعاً ولا قدروا حاكماً ولا قاضياً بل رفضوا التعامل مع المحاميين الذين تطوعوا للدفاع عنهم).
تهرب جعفر نميري من المسؤولية القانونية وكان يمكن أن يسجل موقفاً على قدر الشجاعة المطلوبة بمواجهة المحكمة وكشف حقائق التاريخ. ولم يعد إلى البلاد إلا بعد القضاء على الديمقراطية الثالثة وسيطرة نظام الانقاذ على مقاليد السلطة، وانتهاء آثار محكمة مدبري انقلاب مايو 1969 بالإفراج عن الذين شاركوا فيه.
أما قادة انقلاب 30 يونيو 1089 فلم يكونوا أطول قامة من قادة الانقلابات الذين سبقوهم في تزييف التاريخ أمام المحكمة المشكلة لمحاكمتهم والتهرب من المسؤولية أو محاولة تهريبها عن آخرين ضالعين في الفعل العسكري الذي أدى إلى هدم النظام الشرعي والاستيلاء على السلطة بالقوة. فما ذكره عمر البشير من أنه يتحمل المسؤولية وحده ويعلم أن الاعتراف سيد الأدلة، هو قول تكذبه حقائق التاريخ وعشرات الاقوال التي أدلى بها أمام أجهزة الاعلام أو أدلى بها من شاركه من المدنيين والعسكريين في الانقلاب. كما أن تنصل بعض قادة الانقاذ من المسؤولية أمام المحكمة تنفيه عشرات الإفادات التي طفحت بها وسائل الاعلام السمعية والبصرية.
أقوال القادة أمام لجان التحقيق والمحاكم لا يجب أن تدخل ضمن تكتيكات المواقف لتفادي المسؤولية القانونية مهما كان ثقلها، وإنما يتعين أن تكون التزاماً بموقف أخلاقي على قدر مستوى المسؤولية المطلوب من القائد. فالقائد ملهم شعبه ومثله في حالة السعة والضيق كما ذكر سقراط حينما صدر الحكم عليه بالإعدام، فتسلل إليه ذات ليلة تلميذه الشاب كريتون وهمس في أذنه: لقد أعددنا كل شيء للهرب فهيا بنا يا أستاذي إلى الحرية. فتطلع إليه سقراط طويلا ثم قال: كلا يا كريتون لن أهرب من الموت. إني لا أستطيع أن أتخلى عن المبادئ التي ناديت بها عمري كله. بل إنني يا كريتون أرى هذه المبادئ الغالية التي ناديت بها حتى اليوم جديرة بذلك الثمن. أجل يا كريتون ليست الحياة نفسها شيئاً، ولكن أن نحيا حياة الخير والحق والعدل فذلك هو كل شيء.
من في هؤلاء كان سقراط؟؟
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.