راجت الانباء عن تسوية يتم الاعداد لها بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير قدمت بموجبها بعض التنازلات من كليهما. كما راج في ذات الوقت أن أحد عناصر التسوية، منح حصانات للعسكر عن أي ملاحقات قضائية مستقبلية عن الجرائم التي ارتكبت. ورغم أن قوى الحرية والتغيير (المجلس العسكري) أكدت في بيان أصدرته، عدم توقيع أي اتفاق يمنح حصانات قضائية إلا أن السياق العام للإجراءات التي تمت منذ أكتوبر 2021 يدل على اتجاه لخلق نوع من الحصانات، وهو ما يتعين الانتباه له ليس من قبل قوى الحرية والتغيير وحدها، وإنما في أي تسوية سياسية تتم للخروج من نفق الأزمة الحالية.
عقب انقلاب 25 أكتوبر 2021 الذي أدى إلى اندلاع الاحتجاجات في أنحاء البلاد وجوبهت بعنف مفرط بلغ فيه عدد الشهداء أرقاماً مفزعة، أصدر رئيس مجلس السيادة أمر الطوارئ رقم (3) لسنة 2021 بتفويض سلطات والقبض على الأشخاص ومنح حصانات. ونص الأمر على منح حصانات إجرائية للقوات النظامية التي تقوم على تنفيذ قانون الطوارئ والتشريعات التي تؤسس له وذلك بعدم جواز اتخاذ إجراءات في مواجهة أفرادها إلا بأذن من رئيس مجلس السيادة. وبذلك حجب سلطات النيابة العامة في التحري والتفتيش والقبض وغيرها من الصلاحيات الضرورية للوصول للجاني واتخاذ الإجراءات الجنائية بحقه. وبعبارة أخرى خلق جداراً للوصول للحقيقة فضلاً عن توقيع الجزاءات اللازمة بحقه.
سبق أن أصدر السيد عبد الفتاح البرهان بصفته رئيساً لمجلس السيادة مرسوماً دستورياً بالرقم (14) لسنة 2021 عدل بموجبه قانون القوات المسلحة لسنة 2007 وأضاف فقرة على المادة (33) تنص على (لا يجوز اتخاذ أي إجراءات قانونية ضد الضابط برتبة فريق فما فوق أمام القضاء المدني عن أي فعل يشكل جريمة وقعت أثناء أو بسبب تنفيذه لأوامر قانونية بسبب أداء وظيفته، ولا تجوز محاكمته إلا بإذن من القائد الأعلى للقوات المسلحة أو من يفوضه) ويخلق هذا المرسوم الدستوري ثلاث مشكلات أساسية:
1- حصن الضباط من رتبة فريق فما فوق من المحاكمة أمام القضاء المدني في الحالات الواردة فيه، وهذا أمر ليس له مبرر قانوني يستند عليه. كما أنه يعارض التوجهات العالمية التي تقضي بأن يقتصر اختصاص القضاء العسكري على الجرائم ذات الطابع العسكري البحت. وعلى سبيل المثال فإن لجنة حقوق الانسان التابعة للأمم المتحدة خلصت في ملاحظاتها حول شيلي سنة 1997 إلى أن نطاق اختصاص المحاكم العسكرية في التعامل مع جميع الحالات التي تنطوي على محاكمة الأفراد العسكريين وقدرتها على إنهاء القضايا التي بدأ النظر فيها في المحاكم المدنية يساهم في الإفلات من العقاب الذي يتمتع به موظفوها في حالات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ومن ثم أوصت بتعديل تعديل تشريعاتها وذلك للحد من اختصاص المحاكم العسكرية ومحاكمة الأفراد العسكريين المتهمين فقط في حالات الجرائم ذات الطابع العسكري البحت.
2- خلق المرسوم الدستوري تمييزاً غير مبرر بين رتب العسكريين فجعل للعسكريين من رتبة فريق فما فوق إجراءات خاصة تتعلق بالحصانة والمحاكمة بينما لم يجد العسكريون من الرتب الأخرى نفس المعاملة. ولا يوجد أساس لهذا التمييز
3- انبنت على المرسوم الدستوري حصانة إجرائية شبه مطلقة للعسكريين من رتبة فريق فما فوق عندما منع محاكمتهم أمام القضاء المدني أو العسكري إلا بإذن من رئيس مجلس السيادة. وهذا الأمر يشمل جميع العسكريين من أعضاء مجلس السيادة حيث أنهم جميعهم من رتبة الفريق فما فوق.
المطالبة بالعدالة للدماء التي أريقت والأرواح التي أزهقت حق خاص لا تملك القوى السياسة حق التنازل عنه أو وضعه ثقلاً في ميزان المساومات السياسية، ومن ثم يجب أن تتضمن أي تسوية سياسية مقبلة نصوصاً واضحة للاقتصاص لدماء الشهداء والمعاقبة على انتهاكات حقوق الانسان دون حصانة لأحد ودون سقوط بالتقادم.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.