د. آدم الحريكة يكتب: الفيدرالية كإطار للاستقرار السياسي والتنمية في السودان وابعاد العسكر من السياسة
من المعلوم ظل السودان يعاني من عدم الاستقرار السياسي والحروب الداخلية وضعف مؤسسات الحكم والهشاشة الأمنية وضعف البنيات الأساسية والاعتماد المتزايد على الزراعة والرعي والقطاعات الاقتصادية التقليدية منذ الاستقلال في 1956. ونتج عن كل ذلك التدهور الاقتصادي المستمر المتمثل في انخفاض دخل الفرد وزيادة معدلات الفقر مع استثناء بعض الفترات القصيرة التي شهدت نمو اقتصادي ملحوظ سرعان ما تلاشى مع غياب السياسات الرشيدة وسوء الإدارة والفساد وغياب التخطيط واستمرار الحروب الداخلية.
حاز السودان على لقب الدولة الافريقية التي شهدت أكبر عدد من الانقلابات العسكرية ب 17 انقلاب (ناجخ وفاشل) منذ الاستقلال مقارنة ب 10 انقلابات للدولة التي تليه في الترتيب وحكم العسكر البلاد 85% من عمرها بعد الاستقلال وتخللت هذه الحقبة الزمنية فترات قصيرة ومتقطعة من الحكم المدني الذي لم يسمح له الجيش بالرسوخ والاستقرار خلافا لما شهدته الغالبية العظمي من الدول الافريقية خاصة منذ الثمانينات من القرن الماضي.
مع غياب الديمقراطية وهيمنة الدكتاتورية العسكرية الأمنية المدعومة من الأحزاب المصنوعة والكيانات الانتهازية ظل السودان يحكم من المركز دون أي دور فعال للمؤسسات اللامركزية الشكلية على المستوى السياسي والحوكمة والإدارة العامة والاقتصاد. نظرا لهيمنة المركز وانعدام او ضعف الخطط طويلة المدى والبرامج المدروسة لتوزيع الموارد وادارتها مع انتشار الفساد والمحسوبية حرمت كل أقاليم السودان من الاستفادة من مواردها البشرية والطبيعية الهائلة (والتي تشمل أكثر من 200 مليون فدان صالحة للزراعة بجانب الثروة الحيوانية والعابية والصمغ العربي والبحر الاحمر والانهار والذهب والحديد وغيرها).
تضاعفت معاناة الشعب السوداني والتدهور على كل الأصعدة تحت حكم الإسلاميين من يونيو 1989 وحتى ابريل 2019 والذي تسبب في عزل السودان من العالم الخارجي وخصخصة دولاب الحكم والدولة لصالح قيادات الحزب الحاكم والأجهزة العسكرية والأمنية التي تحميه وتأجيج الحروب الداخلية في الجنوب ودارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق واستمرت هذه العبثية حتى بعد انفصال جنوب السودان في 2011. أدت هيمنة العسكر ونخب المركز مع تركيز الخدمات (مع شحها) في المدن بجانب استشراء الفساد ومضاعفة الانفاق على الأجهزة الأمنية لحماية النظم الدكتاتورية الى افقار الأقاليم والريف والهجرة من مناطق الإنتاج الى المدينة (وارتفاع معدلات الهجرة الخارجية خاصة في أوساط المتعلمين Brain drainو هجرة رأس المال والمستثمرين (Capital flight وتعاظم شعور سكان الأقاليم بالظلم والتهميش في وطنهم.
في نهاية المطاف أدت هيمنة المركز الى الانهيار شبه التام في الريف والمدن وفى المؤسسات والاقتصاد والامن والامل وأشعل كل ذلك ثورة ديسمبر 2018 والتي رفعت شعارات الحرية والسلام والعدالة ومهرت بدماء الالاف من الشهداء والمصابين والمفقودين من كل بقاع السودان ولا تزال جذوتها مستعرة. بعد انهيار حكم الجماعات الاسلاموية بقيادة الجنرال عمر البشير اتفق قادة الجيش وقوى الحرية والتغيير على تشكيل حكومة انتقالية لمدة 39 شهرا وتم التوافق على الدكتور عبد الله حمدوك لرئاسة مجلس وزرائها في أغسطس 2019.
هذا المقال غير معنى بتقييم أداء الحكومة الانتقالية والتي حققت كثير من الإنجازات المرتبطة بأولويات السلام والامن والاقتصاد والتحضير للاستحقاق الانتخابي بنهاية الفترة الانتقالية الا ان الانقلاب العسكري الذى نفذ بقيادة الجنرال عبدالفتاح البرهان في 25 أكتوبر 2021 أجهض عمل وبرنامج الحكومة الانتقالية بعد أن لاحت ثماره في الأفق من خلال، على سبيل المثال لا الحصر، وقف الحروب الداخلية وخروج السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وعودته لمؤسسات التمويل الدولية وبدء تعافى الاقتصاد السوداني وعملية اعفاء ديونه الخارجية المقدرة بأكثر من 60 مليار دولار امريكي في 2020 مدعومة بالعديد من الاصلاحات القانونية والإدارية الهادفة لتطوير مناخ الاستثمار وزيادة الايرادات العامة للدولة وعقد مؤتمر الحكم والإدارة لاستكمال الدستور الانتقالي واجراء التعداد السكاني تمهيدا لقيام الانتخابات العامة في نهاية 2023 او بداية 2024.
الانقلاب العسكري أعاد البلاد الى مربع الدكتاتورية وهيمنة نخب المركز بما فيها عناصر النظام الإسلامي التي ترعرعت على الفساد وقمع المواطن السوداني والاستهتار برغباته وطموحاته في الحرية والكرامة والعيش الكريم. وبذلك وللمرة الرابعة في تاريخ السودان قام الجيش السوداني بقطع الطريق نحو تحقيق دولة القانون والعدل والسلام والمساواة بعد ان لاحت تباشير العبور في الأفق.
أهم مكونات العبور المنشود تتمثل في التوافق على نظام حكم سياسي يوفر الفرصة للجميع في المدن والارياف وكل الأقاليم لانتخاب ممثليهم في المجالس التشريعية المحلية والقومية والقيادات التنفيذية على كل المستويات والمشاركة في حكم البلاد ووضع حد لهيمنة النخب المركزية ويتضمن ذلك الشعارات التي رفعتها الحركات المسلحة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق المطالبة بلامركزية الحكم. معضلة الحكم والمركزية القابضة والمتسلطة بدعم الجيش والامن تقف وراء التدهور الاقتصادي المستمر منذ الاستقلال ومعاناة الشعب السوداني الذي يواجه تعاظم الفقر رغم توقر الموارد الطبيعية (المشكلة الاقتصادية في السودان تعتبر سياسية من الدرجة الأولى) وكذلك تدهور الوضع الأمني وتوقف عملية السلام في مناطق النزاع.
رغم هيمنة العسكر والجماعات الانتهازية التي تدعمهم وانسداد الافق السياسي في غياب التوافق حاليا بين الكتل السياسية الداعمة للانتقال الديمقراطي لا بد من التفكير الجاد والحوار الوطني المكثف حول المخرج من هذه الازمات التي تهدد وحدة وامن واستقرار السودان والذي ظل يصنف واحدا من بين أكثر 4 دول فاشلة في العالم في العقدين الماضيين.
في تقديري ان مواجهة ازمة الحكم والاستقرار والامن والاقتصاد وما تبعها تتطلب التوافق على إطار سياسي شامل للحل والعودة الي ما قبل انقلاب 25 أكتوبر 2021. يجب ان يوفر هذا الإطار الفرصة لكل مكونات الشعب السوداني للتحاور والتوافق على انتقال ديمقراطي يؤسس لحكم لامركزي او حكم ذاتي لكل الأقاليم بما فيها الشمال والشرق والوسط وكردفان ودارفور والنيل الأزرق ويؤسس تفصيلا لعلاقة جديدة بين المركز والاقاليم او الولايات ترتكز على دور أساسي وفعال للأقاليم في إدارة شئونها سياسيا وامنيا واقتصاديا مع وضع حد لهيمنة المركز وابعاد الجيش من العمل السياسي.
في هذا المنحى تجدر الإشارة الى ان مؤتمر الحكم والإدارة الذي كانت تعد الحكومة الانتقالية العدة لعقده في ديسمبر 2021 كان يمثل المدخلللمؤتمر الدستوري والإطار الشامل لحل الازمة السياسية ومن بعدها الاقتصادية والأمنية وتحديات السلام. يرتكز دور اللامركزية كإطار لحل الأزمة الوجودية في السودان (Sudan existential crisis) على تمكين الأقاليم من لعب أدوار ريادية في إدارة شئونها من حيث البناء السياسي والحوكمة والشئون الاقتصادية والاجتماعية من خلال أجهزة ومؤسسات محلية تشريعية وتنفيذية فعالة تدعمها مؤسسات محلية نقابية وشعبية ومؤسسات القطاع الخاص والمجتمع المدني والمنظمات النسوية والشبابية. المؤسسات المحلية أكثر الماما وتجاوبا مع الواقع المحلى وما يطلبه المواطن كما تؤكد تجارب دول نامية كثيرة مثل جنوب افريقيا ونيجيريا وكينيا وماليزيا.
في إطار الازمة الشاملة التي يواجهها السودان اليوم والحراك الثوري المستمر المطالب بالديمقراطية والحرية والسلام والعدالة تمثل اللامركزية أولا المدخل لحل الازمة السياسية والمطالب المرتبطة بالحكم الذاتي في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان وحتى غيرها من الأقاليم التي لم ترفع السلاح ضد هيمنة النخب المركزية. ثانيا يمكن ان تلعب اللامركزية او الحكم الذاتي من خلال تعظيم مهام ومقدرات مؤسسات الحكم المحلية دورا فاعلا في عملية التحول الديمقراطي ووضع حد لهيمنة المركز والدكتاتوريات العسكرية. المواطن الذي يشارك في إدارة شئون اقليمه سيكون أكثر استعدادا لمقاومة أي انقلاب عسكري وسيواجه الانقلابيين والانتهازيين بالتمرد في الأقاليم. اللامركزية بهذا المفهوم يمكن ان تساعد على وضع حد للتهميش ومحاربة الفساد المؤسسي وتحجيم الانهيار الناتج من ضعف الإدارة المركزية.
ثالثا وكما تشير التجارب الإقليمية والدولية يتلخص الدور الأساسي للامركزية في تمكين الأقاليم والولايات في لعب دور فعال في الإدارة الاقتصادية والتنمية من خلال القسمة العادلة للموارد بين الأقاليم والمركز وتعظيم نصيب الأقاليم من إيرادات الموارد الطبيعية (البترول والذهب والغاز وغيرها) والايرادات المحلية وتفعيل دورها في تعبئة الموارد المالية من ضرائب وجمارك واستخدامها الأمثل لإحداث التنمية المستدامة، وتوفير فرص العمل والخدمات على المستوى المحلى )الفدرالية المالية Fiscal federalism من حيث تعبئة الموارد المالية واستخداماتها). والأمثلة في هذا الإطار كثيرة. ففي نيجيريا مثلا تحصل الولايات المنتجة للبترول على 26% من إيراداته وساعد ذلك على تحجيم النزاعات بين المركز والولايات المرتبطة بقسمة الموارد واستخدامها لدعم التنمية والخدمات وعدالة توزيعها والمنافسة بين الولايات لتشجيع الاستثمار والتنمية.
كثير من ولايات واقاليم السودان بإمكانها ان تنهض لولا هيمنة العسكر والمركز نظرا لما تتمتع به من موارد. على سبيل المثال لو كان لدينا لامركزية حقيقية لما كان مشروع الجزيرة مشروع اعاشى حتى اليوم ولنهض اقتصاد ولاية الجريرة او الإقليم الأوسط من خلالإدخال الحيوان في الدورة الزراعية والصناعة التحويلية وغيرها. وكذلك لن يعاني مواطن غرب كردفان من العطش والبترول يجري تحت ارجلهم نحو المصافي في الجيلي ولتطور الإقليم الشمالي وشرق السودان من عائدات الذهب والموانئ وغيرها.
اللامركزية بهذا المعنى هي النقيض للأطروحات الاقتصادية الإيدولوجية الضيقة والمدخل لتعبئة القدرات والخروج من القبضة المركزية وحل الأزمات المترابطة، السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، ولكن يجب التذكير بالتحديات المتوقعة مثل الصراعات المحلية (خاصة في دارفور والشرق) والإمكانات البشرية والمادية المطلوبة للتأسيس السليم للحكم اللامركزي الفعال…الخ. هذه التحديات يمكن التغلب عليها مع ترسيخ الممارسة.
قد تتعثر ممارسة الحكم اللامركزي في بداياتها في بعض الأقاليم لكن معظمها سينجح والنجاح حتى في بعض الأقاليم مثل الجزيرة أو النيل الأزرق أو كردفان او دارفور سوف يفتح منافذ للأمل ويعطينا نموذجا لدولة أفضل من دولة العسكر والدكتاتورية المتسلطة مركزيا والتي حجمت الطاقات واهدرت الموارد التي وهبها المولى عز وجل للبلاد وتنذر بتقسيم البلاد مرة اخرى والعودة الى مربع العزلة الدولية واستمرار فشل الدولة السودانية. اللامركزية في أكثر الأوضاع تعقيدا، مثلاللامركزية الأثنية في أثيوبيا ، أفضل من الديكتاتورية العسكرية التي تكبت الطاقات البشرية والمادية وتضيع الفرص المتاحة لتحقيق التنمية والرفاه وتأجج الحروب الداخلية وتراهن على القبضة الأمنية والفساد والدعم السياسي الإقليمي والمعاناة وانسداد الأفق من أجل الاستمرار فى الحكم وحماية مصالحها السياسية والاقتصادية كما نشهد في السودان اليوم.
دكتور آدم الحريكة
المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء السابق دكتور عبد الله حمدوك
أديس أبابا
3 يوليو 2022
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.