باج نيوز
موقع إخباري - أخبار اراء تحليلات تحقيقات بكل شفافية
taawuniya 1135*120

راشد دياب يكتب: الجيش للثكنات .. ولجان المقاومة تنحل

2٬114

رغم ما يمثله من تدخل أجنبي سافر في الشأن السوداني إلا أنني لاحظت بعض احتفاء بخبر فرض الخزانة الأمريكية عقوبات على قوات الاحتياطي المركزي السوداني ومظاهر غبطة وسرور بررها بعض المتداخلين في وسائط التواصل الاجتماعي بأنهم سيكفون عن الاحتفاء بالتدخل الأجنبي عندما يتوقف قتل الدولة السودانية وإجرامها على شعبها وإهدار الدم السوداني وعندما تكون هناك حكومة تحترم شعبها ولا تقتله من أجل المناصب، وهنا لاحظت أنا أن هناك خلطاً بائناً بين مفهومي الدولة والحكومة عند كثير من الناس.
واحدة من التعريفات التي تبين الفرق بين الدولة والحكومة هي أن الدولة تمثل الإقليم (أرضاً وشعباً وسيادة) في حين أن الحكومة هي الكيان الذي يدير هذا الإقليم، وعليه لا يمكن للحكومة أن توجد من دون دولة، ولا يمكن للدولة أن تعمل من دون حكومة، وعلى الرغم من أن الحكومة تسيطر على الدولة، فإن الحكومات تتغير وفقاً لإرادة الشعب في حين يبقى كيان الدولة كما هو بغض النظر عمن يديره.
من البديهي إذن أن تتنافس الإرادة الشعبية حول محور الحكومة وليس الدولة نفسها ومؤسساتها، وأن تتيح مؤسسات الدولة للشعب فرصاً متكافئة للتنافس حول الحكم، لا أن تحكم هي أو تغلب طرفاً على طرف..
إلا أن المشهد السوداني بعد سقوط نظام البشير ينبئ بعكس ذلك، والسبب في ذلك أن القوى السياسية التي استولت على السلطة الانتقالية وشاركت العسكر باسم الشعب (أحزاب الحرية والتغيير) فعلت ذلك وبين يديها مشروع واحد فقط للحكم هو كنس الإسلاميين من المشهد السياسي تحت عنوان عريض ومثير هو (تفكيك نظام الثلاثين من يونيو واسترداد الأموال المنهوبة(، “قحت” لم تكن وحدها بالطبع، بل كان من ورائها دول ومنظمات وأجهزة مخابرات خارجية لها مصلحة في هذا الملف بالتحديد، وقبل أن يسمع الشعب السوداني بالتغيير الذي حدث فجر الحادي عشر من أبريل ٢٠١٩ كان قادة الحزب الحاكم آنذاك يقبعون في سجن كوبر والحزب نفسه تم حله في البيان الأول للمجلس العسكري،
لما كانت الحكومة تمثل في أحد تعريفاتها الإدارة السياسية للبلد فإن هناك عدة أنواع من الحكومات منها الفوضوية، الشيوعية، الملكية، ثيوقراطية، الملكية الدستورية، الجمهورية الدستورية، الديكتاتورية، والديمقراطية، وفي حالة سودان ما بعد ثورة ديسمبر كانت الحكومة المناسبة هي الحكومة الانتقالية وهي نوع من الحكومات لها طريقة متميزة ومعروفة في إنشاء القانون وإنفاذه، إلا أن مشروع (التفكيك) كان قد انحرف بمهام الحكومة الى أدوار أقرب للمعارضة أو التمرد ولأن المعارضة هذه المرة لم تجد حكومة تعارضها (كونها هي الحكومة نفسها) فقد اختارت أن تعارض الدولة بدلاً عن السيطرة عليها وإدارتها كما هو متعارف عليه.
بتاريخ ٢٥ أكتوبر كسبت (الدولة) معركتها أمام (حكومة/ معارضة) قحت وذهب رئيس وزرائها مأسوفاً عليه من غالب الشعب السوداني، لأن الدولة ببساطة تحتكر القوة بموجب الدستور وتملك ما لا يملكه عبدالله حمدوك، وعلى طريقة (المجد للمتاريس) ورثت قوى الثورة ولجان المقاومة من أحزاب الحرية والتغيير أسلوباً شعبياً في التعبير مع بعض إسهامات الحزب الشيوعي التنظيمية وبعض إلهامه رفعت لجان المقاومة شعار (لا تفاوض لا شراكة لا شرعية) واستمر هذا التعبير في استهداف مؤسسات الدولة وبشكل مباشر في قيادتها العسكرية المتمثلة في (البرهان وحميدتي) وصل في غالب تشكلاته إلى مواجهة بين الطرفين وللأسف فإنه يخلف في كل مرة ضحايا وخسائر مادية فادحة ويعطل العملية السياسية وفي أحيان كثيرة يعطل حياة الناس وأعمالهم.
غير أن هذه المواجهة تضع أصحاب الولاءات السياسية والوطنية أمام محك الاصطفاف، إما إسناد العسكر أو الانحياز للشباب الثائر في الشوارع، على الرغم من أن هذان الخياران يؤديان في نهاية المطاف إلى نتائج صفرية (tending to zero) كون الانحياز العاطفي للطرف الرافض للحوار لا يؤدي لأي نتيجة سوى مزيد من التشنج والتعصب وتعطيل العملية السياسية وكون إسناد العسكر يزيد من أطماعهم في السلطة وتشبثهم بها.
فإن هذه المواجهات خلفت سوءاً وتدهوراً مريعاً في أوضاع البلاد الاقتصادية والاجتماعية والأمنية وأبدى المواطنون شكلاً من أشكال الحنين للماضي، فسره بعض أنصار النظام القديم أنه حنين لحكومة البشير والإنقاذ، ولكنه في الواقع حنين للأوضاع في شكلها الطبيعي ضمن تحديات الدولة الحديثة، حنين لوجود حكومة تتغير وفقاً لإرادة الشعب في حين يبقى كيان الدولة كما هو بغض النظر عمن يدير. وظهرت أصوات ومناشدات ورجاءات من كثيرين لإيقاف هذه المواجهات.
تحقيق المطالب بعودة العسكر للثكنات يتوجب إيقاف استهداف العسكر ودعمهم لحماية ما نتفق عليه من طرق للتشريع والقضاء والإدارة، كما أن المطالبة بحل لجان المقاومة وعدم استهدافهم لمقومات الدولة ومؤسساتها يتوجب تمكينهم وتمكين إرادتهم الشعبية وتوجيه طاقاتهم حول محور (الحكومة) وليس (الدولة) وتثبيت حقهم في اختيار حكومة تمثلهم وتمثل مصالحهم، كما يتوجب علينا جميعا أن نفكر ونعمل على إيجاد حكومة انتقالية تعمل على إدارة الدولة ومؤسساتها وتسيطر على الأوضاع، علينا أن ندعم هذه الاتجاهات، بدلاً من الجأر بالشكوى من تردي الأحوال
تخيلوا لو دعمنا تطبيق نموذج للتنافس حول الحكم المحلي لبعض الوحدات الإدارية في الخرطوم ذات النشاط العالي من قبل لجان المقاومة مثل بري والديم في الخرطوم وشمبات والجريف في بحري والعباسية وأمدرمان القديمة في أمدرمان، لو مكنا الفائزين في هذه المناطق من حكم مناطقهم (شباب الأحزاب يمكنهم الدخول في التنافس، من استطاع منهم إلى ذلك سبيلاً) سنحصل على بيئة نظيفة أولاً وخدمات مناسبة في محطات الوقود والغاز والمخابز ودعم للتعليم والصحة وأمن مجتمعي وتأمين عالٍ للتفلتات والظواهر السالبة، ونتدرج في هذه التطبيقات حتى نصل لمستوى اختيار رئيس حكومة لجمهورية السودان متوافق عليه وأن يكون للجان المقاومة القدر المعلى في ذلك.
خلاصة القول إن أزمتنا السياسية هي أزمة مفاهيم حول (الدولة) و(الحكومة) وليست أزمة قيم وطنية، ولو اتفقنا على هذه المفاهيم يمكن أن نتراجع خطوة من أجل التقدم خطوتين.

نقلاً عن اليوم التالي

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

error: