باج نيوز
موقع إخباري - أخبار اراء تحليلات تحقيقات بكل شفافية
taawuniya 1135*120

أمير تاج السر يكتب: المعرفة المزعومة

1٬451

كنت ذكرت مرة في دردشة عابرة أن شخصا لا أعرفه جيدا يسألني كلما التقاني، في أي مناسبة، أو حتى مصادفة في الطريق:
ما هو الجديد عندك؟
أخبره إن كان لدي جديد أو لا، فيبتسم، ويشد على يدي بقوة مباركا لي أعمالي التي يستمتع بها ويترقبها، ويمضي.
في إحدى المرات التقيته في صالة أحد الفنادق، جلس بجانبي، وسألني السؤال التقليدي، لكني لم أرد إفلات تلك اللحظة، سألته عن القديم الذي قرأه لي، وأي نص أعجبه فيه بالتحديد؟ فارتبك، نقرت على اللحظة أكثر، واكتشفت أن الرجل لم يقرأ لي أو لغيري حرفا واحدا، وحتى رواية «كنوز الملك سليمان»، التي كانت مقررة عليه في المرحلة المتوسطة، أيام أن كان طالبا في سبعينيات القرن الماضي، لم يقرأها، واكتفى بمقتطفات منها تساعده على النجاح في الامتحان. وضح أكثر أنه لا يملك حتى مكتبة في بيته، من نوع تلك المكتبات التي يحشوها الناس بالكتب الضخمة، التي تسمى أمهات الكتب، ويجعلونها بارزة في صالونات بيوتهم، من أجل الوجاهة، وإظهار الثقافة للزوار الذين يستقبلونهم.
إذن لماذا السؤال الدائم كلما التقيت كاتبا أن تسأله عن الجديد عنده، وأنت لا تعرف شيئا عن القديم، الذي يعود بعضه إلى خمسة وعشرين عاما مضت؟
الرجل لا يعرف، لكن أستطيع أن أقول إن العمل في حرفة مثل الكتابة، والتمثيل، والفن عموما، لا يجعل الحياة سهلة، أو سلسة أبدا، قد لا يأتي بأي عائد. خاصة بالنسبة للكتابة، وهذا هو الشائع، وقد يأتي بعائد بسيط، وهذا ليس للجميع ولكن لقلة من المبدعين، كانت حظوظهم جيدة، ولكن العائد الاجتماعي المتلصص والمتتبع للعورات، والهنات البسيطة حتى، هو ما يرهب حياتنا، ويجعلنا أسرى لأفكار وتكهنات عنا ليست صحيحة أبدا. وبعد أن اكتشفت الإنترنت، واتسع نطاق استعمالها، لتصبح متوفرة في كل مكان، حتى القرى البعيدة جدا في أصقاع الأرض، اتسع أيضا نطاق التتبع، وإمكانية الوصول لأي شخص مهما كان منعزلا، في عالمه الخاص، ناهيك عن الشخص الذي يعمل في وظيفة عامة، تحتم عليه أن لا يفكر في أي عزلة.
هناك كثيرون قد لا تزعجهم الأسئلة العابرة في الطرقات والأسواق والمستشفيات، وهناك من تزعجهم، وشخصيا أحب الحكايات التي ألتقطها من هنا وهناك، خاصة حين أسافر، وأستقل قطارات وطائرات وعربات أجرة. لكن لا أحب ادعاء المعرفة، من دون معرفة، ولا اقتحام صمت الآخرين، وانزوائهم من دون ضرورة، وكم من مرة شاهدت مغنين وممثلين في المطارات، يضع الناس أيديهم على أكتافهم، ويلتقطون معهم الصور، ويؤخرونهم عن رحلاتهم، من أجل لا شيء، سوى ادعاء الصداقة الوطيدة في وسائل التواصل الاجتماعي، بأشخاص لم تلتق بهم سوى دقيقة واحدة.
نموذج الشخص الذي يسأل عن الجديد، ولا يعرف القديم، موجود أيضا في مجموعات القراءة، لكن هناك قد يرهق نفسه قليلا، بتتبع بعض المقالات أو التغطيات الصحفية، ليأتي في يوم نقاش الكتاب، يجلس باطمئنان ويسأل:
لماذا كان بطل الرواية مجرما، ولم يكن ضحية لمجرم آخر، أو لماذا جعلت الفتاة الجميلة تلك، تموت في منتصف الرواية، ولم توظفها حتى النهاية؟
الكاتب سيصدقه بكل تأكيد، لأن لديه بطلا مجرما، أو لديه فتاة جميلة داخل نص له، ماتت مبكرا، لأسباب واضحة في النص، سيشكره على القراءة، ولن يمضي معه بعيدا، وإن أحس هو أن الكاتب سيناقشه، اعتذر وانسحب لأي عذر.
ادعاء المعرفة أيضا قد يكون عند الأكاديميين المتخصصين في الأدب، الذين بالتأكيد ليس لديهم وقت لقراءة أو معرفة كل من كتب في العالم، هم يعرفون البعض وقرأوا للبعض، ويمكن أن يتحدثوا بطلاقة عن مشاريع دراساتهم التي أنجزوها، لكن يحدث عند البعض أن يخيل إليهم فجأة أن الجالسين معهم على الطاولة، في مهرجان أو لقاء أدبي ما، والذين لم يلتقوا بهم من قبل، ولا يعرفونهم، ليسوا في كفاءتهم، فيرمونهم بمعرفة متوهمة، لا يملكونها.
وكنت مرة في أحد المهرجانات في الشارقة، وجلست إلى طاولة فيها أكاديمي عربي، كان يردد أنه متخصص في نقد الروايات، وقرأ كل رواية صدرت في الوطن العربي، ويحمل في ذهنه أنطولوجيا ضخمة لكل الروائيين حتى لو كانوا كتبوا نصا واحدا فقط. أنا كان لدي نصوص كثيرة، ولم يبد على الرجل أنه يعرفني، أو وضعني داخل تلك الأنطولوجيا، ونبهه أحد إليّ ذاكرا اسمي، فارتبك الرجل، سألني: لا بد أنك جديد، سأتعرف على كتابك.
قلت: بالتأكيد، شكرا لك، وفهمت بالطبع وفهم غيري من الجالسين، أن ادعاء المعرفة كان على أشده، في تلك الطاولة.
أنا أؤمن بأن الإنسان عموما، له قدرات محددة، وله بالطبع اهتمامات محددة، والوجاهة الاجتماعية في بلادنا العربية، قد تحتم على أشخاص بسطاء، وحتى غير بسطاء، أن يدعوا الإلمام بكل شيء، ويدلوا بدلوهم في كل شيء. ودائما ما كنت صريحا في معرفتي بالآخرين، وأذكر أن شاعرا صديقا كتب رواية وجدت أصداء جيدة عند القراء، واقتنيتها لأقرأها، وتاهت وسط كتبي، ومضى أكثر من عامين، والتقيت بالرجل في دبي وجلسنا ندردش، وسألني فجأة: ما رأيك في روايتي يا أمير؟
قلت ببساطة: للأسف لم أقرأها حتى الآن بالرغم من أنها عندي.
وكان ذلك بداية لجفاء حدث بيني وبين الشاعر، الذي لم يرد أن يفهم، أن للإنسان قدرات معينة، وقد لا يملك وقتا كافيا، يؤهله للإلمام بكل شيء.
لا مانع لدي شخصيا أن لا يقرأني معارفي، لأي سبب من الأسباب، ولكن ما يزعجني كما قلت، هو امتلاك المعرفة المزعومة، ومحاولة إيجاد مكان لها في المجتمع ووسط الناس.

نقلاً عن القدس العربي

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

error: